التفكير المجرد: المرحلة النهائية في النماء المعرفي، بين استيعاب المفاهيم والقدرة على التعميم واستخلاص النتائج المنطقية

التفكير المجرد: تحليل وتفصيل للمفهوم

التفكير المجرد (Abstract Thinking) هو قدرة عقلية متقدمة وضرورية، تتجاوز حدود الواقع المادي الملموس لتتعامل مع المفاهيم والتعميمات التي لا يمكن إدراكها مباشرة بالحواس الخمس (الرؤية، السمع، اللمس، الشم، التذوق). يمثل هذا النوع من التفكير أعلى مراحل النمو المعرفي ويتميز بخصائص فريدة تُمكّن الفرد من فهم العالم وحل المشكلات بطرق معقدة ومبتكرة.

1. طبيعة التفكير المجرد وخصائصه:

الماهية والتعريف:

التفكير المجرد هو القدرة على:
  • استيعاب المفاهيم: فهم الأفكار أو المبادئ الكلية التي لا ترتبط بشيء مادي محدد، مثل الحرية، العدالة، الحب، الأمانة، أو الرياضيات العليا.
  • التعميم: استخلاص الخصائص المشتركة أو الأنماط الأساسية من مجموعة متنوعة من العناصر أو الأحداث أو الأمثلة الفردية، وتطبيق هذه القواعد أو المبادئ على مواقف جديدة.

السمات والمرحلة النمائية:

  • مرونة الأفكار: يتميز التفكير المجرد بكونه تكيفيًا ومرنًا؛ أي أن المفكر يستطيع تغيير زاوية نظره للمشكلة، وتبني حلول مختلفة، والانتقال بين المستويات المتعددة للمعنى.
  • المرحلة النهائية: يُعد التفكير المجرد المرحلة الأكثر تعقيدًا والنهائية في نماء التفكير المعرفي البشري، وعادة ما يتصف به البالغون الأسوياء الذين وصلوا إلى هذه المرحلة من التطور العقلي.

2. المقارنة بين التفكير المجرد والتفكير العملي:

يُقارَن التفكير المجرد (Abstract Thinking) غالبًا بنقيضه، وهو التفكير العملي (Concrete Thinking)، لتحديد الفروق الجوهرية بينهما في فهم العالم وحل المشكلات.
فبينما يقتصر التفكير العملي على ما هو مادي ومباشر وحرفي (أي ما هو موجود "هنا والآن" وأمام الوجه)، فإن التفكير المجرد يتجاوز هذه الحدود المادية. يمتلك المفكر المجرد القدرة على التصور والتعميم ورؤية معانٍ متعددة للمفهوم الواحد، باحثًا عن أنماط ما وراء الأنماط الواضحة، ويستخدم الأدلة للوصول إلى استنتاجات منطقية وحل مشاكل أكبر. في المقابل، يفسر المفكر العملي الأمور بطريقة حرفية ومباشرة، يتعامل مع الحقائق والأشياء الملموسة كما هي دون استخلاص معانٍ أو رموز أعمق.

مثال توضيحي: تفسير لوحة فنية

يوضح التباين في تفسير لوحة لامرأة تحمل مشعلًا الفرق بين النمطين:
  • المفكر العملي: يفسر اللوحة حرفيًا؛ امرأة تحمل شيئًا مشتعلًا.
  • المفكر التجريدي: يرى أبعد من الصورة السطحية؛ قد يفسر اللوحة كرمز لتمثال الحرية، ويستنتج أن الرسّام أراد الاحتفال بالحرية أو التنوير كفكرة مجردة.

3. أهمية وفوائد التفكير المجرد:

للتفكير المجرد منافع جمة تساهم في تطور الفرد وقدرته على التعامل مع تعقيدات الحياة:
  • حل المشكلات الإبداعي: يساعد على حل المشاكل بطرق أكثر إبداعًا وابتكارًا، مما يمنح الفرد الميل إلى "التفكير خارج الصندوق" أو النطاق المسموح به والمألوف.
  • استخلاص النتائج المنطقية: يتمكن المفكر من إنجاز حل المشاكل عن طريق:
  • وضع الفرضيات واختبارها.
  • استخلاص النتائج المنطقية من مجموعة من الملاحظات أو المعطيات غير المباشرة.
  • فهم أعمق للمفاهيم: يتيح التفكير المجرد فهمًا أكثر ثراءً وعمقًا للمفاهيم الإنسانية والعلمية، حيث يمكنه استيعاب طبقات المعنى المتعددة.

4. امتدادات التفكير المجرد في علم النفس:

تتجاوز أهمية التفكير المجرد الجانب المعرفي البحت، حيث يرى بعض علماء النفس أن القدرات التجريدية قد تمتد إلى مجالات أخرى غير الإدراك الصريح:
  • كارل يونغ (Carl Jung)، مؤسس علم النفس التحليلي، وسّع من مفهوم القدرة التجريدية ليشمل مجالات أخرى غير التفكير.
  • عرّف يونغ بعض الأنواع الشخصية بأن لديها القدرة على الشعور التجريدي، أو الاستشعار / الإحساس التجريدي، بالإضافة إلى القدرة على التفكير التجريدي. وهذا يشير إلى أن القدرة على التعامل مع المفاهيم غير الملموسة قد تكون سمة أعمق تشمل جوانب أخرى من الوظائف النفسية (كالعاطفة والإحساس) وليست مقتصرة فقط على المعرفة أو الإدراك العقلي.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال