لا تربية في أمة من الأمم بغير سياسة عليا وتحديد واضح للأهداف.. لقد كان وما زال من أعظم المعوقات لأمتنا عن بلوغ أهدافها، من التربية سواء في تنمية مجتمعاتنا أو ما يقال ويوصف (باللحاق بركب الحضارة). أو نقل تراثنا عبر الأجيال، أو التمسك بوحدة الأمة وشعور أبنائها بالعزة والإباء أو إيجاد الفرد الصالح والمجتمع الصالح أو التخلص من المشكلات المستعصية التي تعرضنا. أقول لا شك أن مجتمعنا العربي الإسلامي لم يبلغ شيئاً من هذه الأهداف كما ينبغي لعدم وجود سياسة عليا، وتحديد واضح للأهداف.
فما زالت النظم التربوية في بلادنا العربية -في مجملها- تقوم على الفصل بين عقيدة الأمة، وواقعها.. أو بعبارة أخرى بين الدين والدنيا، فهناك تعليم ديني يخرج أناساً يختلفون شكلاً وموضوعاً وأحياناً عقيدة وسلوكاً عن خريجي التعليم الدنيوي، ولا يوجد لليوم ربط صحيح بين الفرد والخريج وبين وظيفته في المجتمع، وبذلك أصبح -في الأعم والأغلب- العلم هدفاً من أجل العلم أو الشهادة، وليس من أجل هدف آخر، وبذلك لم نستفد من ثمرات التعليم وبركاته، بل أصبحت كثرة الخريجين عبئاً إضافياً على الأمة لما لم تستفد الأمة من علومهم وتحصيلهم وإنما أضافتهم إلى قطاع الموظفين الحكوميين الذي يتقاضون رواتب من مال الأمة ولا تسترد الأمة منهم مردوداً يوازي هذه الرواتب.
فما الفائدة إذا أنفقت الملايين في تعليم وتربية وتسليح جيش لا يحمي حياض الأمة، ولا يسهم في عزتها، ورد الأذى والعدوان عنها؟ وما الفائدة من إنفاق الملايين على تعليم آلاف المهندسين، وملايين الصناع، ولا توجد سياسة عليا للإنتاج؟ ولا قنوات صالحة لاستثمار هذا العدد الضخم من الفنيين والمهندسين؟! وما الفائدة من تعليم آلاف الفتيات علوماً لا تنفعهن في دينهن ولا دنياهن ثم رصهن في المكاتب والدوائر يتقاضين رواتب من مال الأمة ولا يسهمن إسهاماً حقيقياً في نفع الأمة وإعلاء شأنها؟ وما الفائدة في تخريج المئات من العلماء والخطباء إذا لم يكن لهم وظيفة حقيقية في المجتمع من أجل التزكية والتعليم والتوجيه.
إن مجرد إحصاء المتعلمين والمتعلمات ليس دليلاً مطلقاً على أن المجتمع قد استفاد من التربية والتعليم وأصبح مجتمعاً صالحاً.
وأنا هنا لا ألوم مناهج التعليم بقدر ما ألوم السياسات العليا للأمة العربية.. وذلك أن الفرد يتكيف -في الأعم والأغلب- بما يسود مجتمعه.. فما الذي يحمل الطالب على أن يصبح صانعاً ماهراً، أو معلماً قديراً، أو طبيباً بارعاً، أو مخترعاً عبقرياً.. ما دام أنه سيخرج إلى مجتمع لا يجد النابهون المخلصون فرصتهم للعطاء والبذل، ولا مكانهم الملائم للعلم. وما دام أنه سيجد الوظيفة المريحة بالشهادة الجامعية التي يمكن أن يحصل عليها بوسائل كثيرة مريحة أيضاً دون عناء الكد والمذاكرة، والبحث والاستقصاء؟
والخلاصة أن الفلسفة العليا، والعقيدة السائدة، والمثل المحترمة المطبقة في المجتمع هي التي تخلق الأفراد، وتوجه سياسة التربية والتعليم وليس العكس..
فالأمة اليابانية مثلاً لو لم يكن النظام فيها قائماً على تقديس التراث واحترام الأمة بل وتقديسها، واعتقاد أن أرض اليابان هي أرض الشمس المقدسة، وأن كل عامل يجب أن يعمل للأمة تقديساً وحقاً، ثم لنفسه وأن يستفيد من ثمرات كده وجهده، في إطار نظام اقتصادي حر يقوم على المنافسة والكسب بغير حدود.. لو لم تكن هذه السياسة العليا والعقيدة التي يحترمها الجميع موجودة لما كان لليابان هذا الدور الاقتصادي القائم حالياً.
وللأسف أقول إن عامة الأمم في الأرض تملك سياسات عليا محددة، وبالتالي أهدافاً تربوية واضحة، ومن ثم مناهج تعليمية وتربوية تنسجم مع السياسة العليا والأهداف. ولذلك يكون النتاج والثمرة شعوباً تحمل قدراً كبيراً من الانسجام والترابط والوحدة، وأما في أمتنا العربية الإسلامية:
فإما أننا نملك أهدافاً سليمة ولكنها تبقى في إطار النظرية والبعد عن التطبيق، وإما أنه توجد أهداف تضاد عقيدة الأمة، وروحها وتراثها ويراد تطبيقها قسراً وقهراً، وبذلك يصبح التعليم والتربية عملية إرهابية إجبارية لا تفرز إلا المقت والكراهية، وإما أنه لا توجد سياسات عليا أصلاً والأمر متروك للاجتهادات والتيارات المختلفة والمدارس الفكرية المتباينة؛ لأجل ذلك كله فإن النتاج العام للتربية والتعليم في وطننا العربي الإسلامي ناتج مشوه، مختلف.
ولست هنا ألوم التعددية الفكرية والثقافية، بل إن هذا أحد عوامل النهوض والإبداع. وإنما اللوم منصب على أن القاسم المشترك، والخطوط العريضة العليا للتعليم هي كما أسلفت القول فيها: إما إنه غير موجودة، أو أنها موجودة بصورة مغايرة لروح الأمة وعقيدتها وتوجهاتها، أو موجودة بصورة سليمة ولكنها بعيدة عن التطبيق الواقع.
التسميات
التربية