النقد السوسيولوجي عند لوسيان غولدمان.. المبدع ليس هو صاحب الرؤية الفكرية في العمل الروائي وإنما هو مبرزها فقط



(لوسيان غولدمان) نجد لـه صيغاً متكاملة المعالم لخطوات نقد سوسيولوجي، يستند إلى أفكار لوكاش، مع تأسيس عدد من المفاهيم الجديدة وبلورتها، من مثل مفهوم (الفهم) و(التفسير) و(البنية الدالة)، و(رؤية العالم).

وقد انطلق (غولدمان) من المنطلقات التالية:

1- إن (الرؤية) هي تعبير عن (رؤية العالم) وهي تتكون داخل جماعة أو طبقة معينة في احتكاكها بالواقع، وصراعها مع الجماعات الأخرى.

2- إن دور المبدع هو (إبراز هذه الرؤية) وبلورتها في أفضل صورة ممكنة، إذ أنه يعبّر من خلالها عن الطموحات القصوى للجماعة التي ينتمي إليها، أو يعبر عن أفكارها.

وهذا يعني أن المبدع ليس هو صاحب الرؤية الفكرية في العمل الروائي، وإنما هو مبرزها فقط.

3- إن (الدور الفردي يتجلّى في الصياغة الجمالية للعمل الإبداعي) وليس في بناء الرؤية العامة التي تنتظم هذه الصياغة، لهذا يُضفي على الإيديولوجيا إهاباً تمويهياً يحوّلها إلى فن.

4- إن البناء الجمالي للعمل الروائي يتميز باستقلال نسبي عن بناء العلاقات الاجتماعية وشكلها.
لذلك فالنص الروائي لا يطابق الواقع، ولكنه فقط يمكن أن يماثل بنية أحد التصورات الموجودة عن العالم في الواقع الثقافي والفكري.

وهكذا يرى (غولدمان) إن الرواية كأدب تتجاوز الإيديولوجيا، لأنها تصوغ (رؤية) العالم في شكل فني.
وهو ينصح النقاد بعدم إيلاء أهمية خاصة في فهم العمل الأدبي للنيّات الواعية للأفراد وللكتّاب، فالوعي لا يشكل سوى عنصر جزئي للسلوك البشري.

وهو غالباً ما يمتلك مضموناً غير مطابق للطبيعة الموضوعية لهذا السلوك. وهكذا يمكن استخلاص النتائج المنهجية عند غولدمان في نقطتين:

1- إن تحليل الرواية ينبغي أن يتجه إلى بنية العمل الداخلية. وهو ما يطلق عليه اسم (الفهم).
ثم ينتقل إلى المرحلة الثانية (التفسير) الذي يؤكد انتماء منهجه إلى سوسيولوجيا الأدب.

ومنها يتم الربط بين البنية الدالة وبين إحدى البنيات الفكرية المتصارعة في الواقع الثقافي للمجتمع.
ومفهوم (البنية) ومفهوم (التكوين) هما الأساس الذي تقوم عليه (البنيوية التكوينية) حيث تدرس المرحلة الأولى وتفهمها، وتفسر المرحلة الثانية ربط العمل الفني بالبنى الفكرية الموجودة خارجه، وتدرك وظيفته ضمن الحياة الثقافية في الوسط الاجتماعي.

2- وهذا المنهج لا ينفي تدخل (اللاوعي) في العملية الإبداعية، ولذلك فإن البنيوية التكوينية إذ تمدّ جسراً بين علم الاجتماع والبنيوية عندما تقول بضرورة تحليل بنية العمل الروائي الداخلية، فإنها تمدّ جسراً آخر بين علم الاجتماع وعلم النفس عندما لا تنفي تدخل عامل اللاوعي الفردي في بناء العالم الروائي والإبداعي، على الرغم من أن (غولدمان) انتقد المنهج البنيوي الشكلي، والتحليل السيكولوجي الفرويدي، لأن الأول يرفض الدلالة الاجتماعية للأدب، ولأن الثاني يقف عند حدود التفسير الفردي.

ويميّز (غولدمان) بين مستويين من الوعي الاجتماعي، هما: الوعي الواقع، والوعي الممكن.
(فالوعي الواقع) هو مجموع التصورات التي تملكها جماعة ما عن حياتها ونشاطها الاجتماعي، سواء في علاقتها مع الطبيعة أو في علاقتها مع الجماعات الأخرى.
وأما (الوعي الممكن) فهو الذي يجسد الطموحات القصوى التي تهدف إليها الجماعة.

وهناك علاقة وثقى بين الوعي والوعي الممكن، غير أن الوعي الممكن هو المحرك الفعّال لفكر الجماعة، وهو الذي يرسم مستقبلها، وعادة ما يكون في غير متناول الناس العاديين الذي يندمجون في الجماعة. ولكنه فقط في متناول الأشخاص المميزين ذوي الثقافة العالية كالفلاسفة والأدباء.

ويربط (غولدمان) الرواية بالوعي الممكن للجماعة المعبرة عن نفسها بواسطة المبدع. وهذا يعني أن كل تحليل نقدي يربط بين مضمون الرواية وبين الوعي الواقع لجماعة ما إنما هو تحليل نقدي يقود في طريق الخطأ، لأن الأدب يرتبط بحاجات الجماعة، أي بالقيم المفتقدة في الواقع. ولهذا فإن مضمون أية رواية لا بد أن يعكس مكونات الوعي الممكن لجماعة بشرية محددة.

وقد كان غولدمان يعتقد أن تشيؤ العلاقات الاجتماعية وسيادة الإنتاج من أجل السوق أثّر بشكل مباشر، في وعي جماعة ما، وفي النتاج الأدبي الذي لم يعد يُدافع عن قيم مأمولة، وإنما أصبح هو الآخر يخضع للإنتاج من أجل السوق، وفي الوقت نفسه يمثل نزعة فردية وذاتية متطرفة تمثّلت في أعمال كثير من الروائيين المعاصرين ابتداء من كافكا.