رؤية متكاملة: المنهج السوسيولوجي التكويني عند لوسيان غولدمان
يُعتبر لوسيان غولدمان أحد أبرز مؤسسي النقد السوسيولوجي الأدبي، حيث قدّم نموذجاً منهجياً متكاملاً، مستنداً بشكل أساسي إلى الأفكار الفلسفية لجورج لوكاش، ومُؤسِّساً في الوقت ذاته لعدد من المفاهيم المحورية التي شكّلت أساس "البنيوية التكوينية". من أهم هذه المفاهيم التي بلورها غولدمان نجد "الفهم"، و**"التفسير"، و"البنية الدالة"**، ومفهوم "رؤية العالم".
الأسس الفكرية ومنطلقات المنهج:
انطلق غولدمان في بناء منهجه من مجموعة من المنطلقات الأساسية التي تحدد العلاقة بين العمل الأدبي والبنية الاجتماعية:
1. الرؤية الفنية والوعي الجمعي (رؤية العالم):
يؤكد غولدمان أن العمل الإبداعي، بما فيه الرواية، ليس مجرد تعبير فردي، بل هو تجسيد لـ "رؤية العالم". هذه الرؤية ليست ذاتية، بل هي بناء فكري جمعي يتكوّن وينضج داخل جماعة اجتماعية أو طبقة محددة. وهي تتشكل في سياق احتكاك هذه الجماعة بالواقع المعاش، وفي خضم صراعها المستمر مع الجماعات والطبقات الأخرى. بعبارة أخرى، الأدب يعكس وعياً جمعياً يتشكل في رحم الصيرورة الاجتماعية والتاريخية.
2. دور المبدع كـ "مُبرِز" للرؤية:
في هذا الإطار، يُعيد غولدمان تحديد دور المبدع (الكاتب أو الروائي). فالمبدع ليس هو صانع الرؤية الفكرية الجديدة في العمل الأدبي، وإنما دوره يقتصر على إبراز هذه الرؤية وبلورتها في أرقى وأفضل صورة جمالية ممكنة. إنه يمتلك القدرة على التعبير عن الطموحات القصوى والإمكانات الكامنة للجماعة التي ينتمي إليها، أو التي يتبنى أفكارها. بناءً على ذلك، يتم سحب صفة "الخالق" الفكري للرؤية من المبدع الفرد، ليصبح بمثابة الوسيط الفني الذي يُحول الوعي الجمعي إلى شكل جمالي متكامل.
3. الصياغة الجمالية والاستقلال النسبي للفن:
يرى غولدمان أن التفرّد الفردي للمبدع يتجلّى حصراً في الصياغة الجمالية للعمل الإبداعي، وفي البناء الفني الذي ينتظم الرواية، وليس في تأسيس الرؤية العامة التي تحكم هذه الصياغة. المبدع يقوم بإضفاء "إهاب تمويهي" على الإيديولوجيا الجماعية، حيث يحوّلها إلى فن.
ومن الناحية الأخرى، يتميز البناء الجمالي للعمل الروائي بـ استقلال نسبي عن البناء المباشر للعلاقات الاجتماعية وشكلها الظاهر. هذا يعني أن النص الروائي لا يطابق الواقع الاجتماعي أو يعكسه بشكل حرفي، ولكنه قد يماثل، في بنيته العميقة، بنية أحد التصورات أو "رؤى العالم" الموجودة والفاعلة في الواقع الثقافي والفكري للمجتمع.
4. تجاوز الإيديولوجيا والتحول إلى فن:
يخلص غولدمان إلى أن الرواية، كشكل أدبي، تتجاوز حدود الإيديولوجيا بمجرد صياغة "رؤية العالم" في شكل فني متماسك. إنها تنتقل من مجرد الدعوة أو التصريح إلى خلق عالم موازٍ يحمل دلالته.
النتائج المنهجية: ثنائية الفهم والتفسير
ينتج عن هذه المنطلقات منهج متسلسل يُعرف بـ البنيوية التكوينية، ويتلخص في خطوتين أساسيتين لتحليل العمل الأدبي:
1. المرحلة الأولى: الفهم (تحليل البنية الداخلية):
يبدأ التحليل بالتركيز على بنية العمل الداخلية، وهو ما يطلق عليه اسم الفهم. في هذه المرحلة، يتم دراسة وتفكيك البنية الفنية والدلالية للرواية كبنية دالة على ذاتها. الهدف هنا هو إدراك التماسك الداخلي والتنظيم الجمالي للعمل بعيداً عن المؤثرات الخارجية في البداية.
2. المرحلة الثانية: التفسير (الربط بالبنى الاجتماعية):
تؤكد هذه المرحلة انتماء المنهج إلى سوسيولوجيا الأدب. بعد فهم البنية الداخلية، يتم الانتقال إلى التفسير، حيث يتم الربط بين البنية الدالة للعمل الفني وبين إحدى البنيات الفكرية المتصارعة في الواقع الثقافي والاجتماعي. يتم إدراك وظيفة العمل الأدبي ضمن الحياة الثقافية والاجتماعية في وسطه. إن مفهومي "البنية" و**"التكوين"** (النشأة والتطور) يشكلان أساس هذا المنهج، حيث يُفهم العمل ثم يُفسر بربطه بالبنى الفكرية الموجودة خارجه.
منهج شمولي: تجاوز الثنائيات النقدية
تميز منهج غولدمان بطابعه التوفيقي الذي سعى لتجاوز حدود المناهج النقدية السائدة:
- تجاوز النقد الشكلي والسيكولوجي: ينتقد غولدمان كل من المنهج البنيوي الشكلي لرفضه الدلالة الاجتماعية للأدب، والتحليل السيكولوجي الفرويدي لوقوفه عند حدود التفسير الفردي والشخصي.
- مد جسر بين علم الاجتماع والبنيوية: يقوم المنهج التكويني ببناء جسر بينهما بضرورة تحليل البنية الداخلية للعمل (البنيوية).
- مد جسر بين علم الاجتماع وعلم النفس: لا ينفي غولدمان تدخل عامل اللاوعي الفردي في العملية الإبداعية وبناء العالم الروائي. هذا الاعتراف باللاوعي يمد جسراً نحو علم النفس، لكن مع إبقاء الأولوية للتفسير الاجتماعي والبنيوي.
التمييز بين الوعي الواقع والوعي الممكن:
يُعد التمييز بين نوعين من الوعي الاجتماعي أساسياً لفهم كيف يربط غولدمان بين الرواية والواقع:
- الوعي الواقع: هو مجموع التصورات والمعارف التي تمتلكها جماعة ما فعلياً عن حياتها ونشاطها الاجتماعي (علاقتها بالطبيعة أو بالجماعات الأخرى).
- الوعي الممكن: يجسّد هذا المفهوم الطموحات القصوى والإمكانيات الكامنة التي يمكن أن تصل إليها الجماعة. إنه الوعي الفعال الذي يرسم مستقبل الجماعة ويحرك فكرها، وعادة ما يكون في غير متناول الوعي اليومي للناس العاديين.
يربط غولدمان الرواية بالوعي الممكن للجماعة. الفن يرتبط بالحاجات والقيم المفتقدة في الواقع (الوعي الواقع). أي تحليل نقدي يربط مضمون الرواية بـ الوعي الواقع لجماعة ما هو تحليل خاطئ، لأن مضمون العمل الأدبي يعكس دوماً مكونات الوعي الممكن الذي تعبر عنه الجماعة بواسطة المبدع.
رؤية غولدمان لأزمة الأدب الحديث:
في سياق تحليله للتطور الاجتماعي، يعتقد غولدمان أن ظاهرة تشيؤ العلاقات الاجتماعية وسيادة الإنتاج من أجل السوق في المجتمعات الحديثة أثّرت بشكل مباشر على وعي الجماعات وعلى النتاج الأدبي. لم يعد الأدب في بعض نماذجه يدافع عن قيم مأمولة (الوعي الممكن)، بل أصبح يخضع هو الآخر لقوانين الإنتاج من أجل السوق. وفي الوقت نفسه، تطور الأدب المعاصر، بدءاً من كتاب مثل كافكا، ليعكس نزعة فردية وذاتية متطرفة نتيجة لهذا التشيؤ.
