بنية الخطاب الساخر في المقامة الجرجانية: قراءة في تقنيات الإقناع وأساليب المباهاة في أدب المقامات

تحليل المقامة الجرجانية:

تُعدّ المقامة الجرجانية نموذجًا كلاسيكيًا لفن المقامات، حيث تجسّد ببراعة سمات هذا النوع الأدبي من سرد قصصي، وأسلوب لغوي فريد، وشخصيات محورية متكررة. تدور أحداث المقامة حول لقاء عيسى بن هشام، بطل المقامات، بأبي الفتح الإسكندري في مدينة جرجان، حيث يُلقي الأخير خطبة مؤثرة يستدرّ بها عطف المستمعين.


الإطار السردي والأسلوب:

  • البنية السردية: تبدأ المقامة بوصف المشهد، حيث يجتمع عيسى بن هشام مع أصحابه في جرجان. ثم يدخل عليهم رجل غريب، يفتتح كلامه بسلام وتحية الإسلام، ثم يلقي خطبته البليغة. تختتم المقامة بكشف هوية هذا الرجل، حيث يتبيّن أنه أبو الفتح الإسكندري، الشخصية المحتالة والمبدعة.
  • اللغة والأسلوب: تتميز المقامة باللغة الفصيحة، التي تخلط بين الشعر والنثر. يُوظّف الهمذاني أسلوب السجع والازدواج بمهارة فائقة، مما يضفي على النص إيقاعًا موسيقيًا جذابًا. تُظهر الخطبة التي يلقيها أبو الفتح براعة لغوية عالية، حيث يستخدم ألفاظًا جزلة وتعبيرات بليغة لوصف حالته المأساوية.
  • فن الخطبة والتسول: تُبرز المقامة "فن التسول" الذي يتقنه أبو الفتح، حيث يعتمد على بلاغته وقدرته على استدرار العواطف. يقدم أبو الفتح نفسه كشخص نبيل وعريق، لكنه اضطرته الظروف إلى الحاجة والسفر، وهو ما يجسد المفارقة الساخرة بين ماضيه وحاضره.


الشخصيات:

  • عيسى بن هشام: هو الراوي الأمين الذي ينقل لنا الأحداث. يُظهر في هذه المقامة جانبًا من شخصيته التي تتأثر بالبلاغة واللغة الجميلة، فهو "يرق" قلبه لخطبة أبي الفتح ويُعجَب بها، قبل أن يكتشف حقيقة الأمر.
  • أبو الفتح الإسكندري: هو محور المقامة. يمثل شخصية الأديب المتسول الذي يستغل موهبته اللغوية في كسب المال. يتميز بذكائه الشديد وقدرته على التأثير في الآخرين من خلال خطابه البليغ الذي يجمع بين الفخر بالأصل (من أهل الإسكندرية، نَمَتْني سُلَيْمٌ) والشكوى من الزمان (تَتَرَامَى بِي المَرَامي).

الدلالات والأفكار الرئيسية:

  • السخرية من المتناقضات: تُبرز المقامة التناقض بين المظهر والحقيقة. فالرجل الغريب الذي يظهر في هيئة متسول (في أطمار)، يحمل في داخله لغة وفصاحة عالية، وقدرة على نظم الشعر. وهذا التناقض هو أساس السخرية في المقامة.
  • نقد الواقع الاجتماعي: يمكن قراءة المقامة كصورة ساخرة للواقع الاجتماعي في ذلك العصر، حيث كان الأدباء والشعراء قد يجدون صعوبة في العيش الكريم، مما يدفعهم إلى استخدام موهبتهم في التسول والاحتيال.
  • جمال اللغة وقوتها: تُظهر المقامة القوة التأثيرية للغة الجميلة، حيث يستطيع أبو الفتح بكلماته البليغة أن يؤثر في قلوب المستمعين ويجعلهم يمنحونه المال. هذا يؤكد على أن الأسلوب يمكن أن يكون أهم من المضمون في بعض الأحيان.


الخاتمة:

تختتم المقامة بالكشف المفاجئ عن هوية المتسول، مما يثير الدهشة والمتعة لدى القارئ. هذا "الاكتشاف" هو سمة مميزة لفن المقامات، حيث يربط بين الأحداث والشخصيات في سلسلة متواصلة. تُبين المقامة الجرجانية أن فن المقامات لا يقتصر على مجرد الحكي، بل هو نقد اجتماعي وأدبي، مُقدّم بأسلوب فني رفيع.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال