المقامة الإبليسية كمرآة للمجتمع العباسي: مقاربة نقدية لشخصية إبليس المتحايل وأبي الفتح المتسول ونقد الذات الأدبية

تحليل المقامة الإبليسية:

تُعدّ المقامة الإبليسية من أشهر مقامات بديع الزمان الهمذاني، وتتميز بأسلوبها السردي المبتكر، وروحها الساخرة، وموضوعها الفريد. تدور أحداث المقامة حول رحلة عيسى بن هشام، بطل المقامات، للبحث عن إبله الضائعة، حيث يلتقي بشخصيات غريبة ومواقف طريفة.


الإطار السردي والأسلوب:

  • البنية السردية: تبدأ المقامة برحلة عيسى بن هشام، وهو إطار شائع في أدب الرحلة والمغامرة. يلتقي عيسى بشيخ غريب في وادٍ أخضر، ويتحول الحوار بينهما إلى تحدٍ أدبي، ثم إلى كشف عن هوية الشيخ الحقيقية. تنتهي المقامة بلقاء عيسى مع أبي الفتح الإسكندري، الذي يضيف طبقة جديدة من السخرية على الأحداث.
  • اللغة والأسلوب: يستخدم الهمذاني لغة فصيحة، مع الكثير من السجع والازدواج، مما يضفي على النص جمالية موسيقية. تظهر براعة الهمذاني اللغوية في الوصف الدقيق للطبيعة (أنهار مصردة، أشجار باسقة) وفي الحوار السريع والذكي بين الشخصيات.
  • الكوميديا والسخرية: المقامة مليئة بالكوميديا الساخرة، التي تنبع من المفارقات في المواقف والشخصيات. فعيسى بن هشام، الذي يبدو في بداية الأمر ضائعًا، يتحول إلى ناقد أدبي لاذع، بينما الشيخ الذي يبدو وقورًا، يتكشف أنه إبليس، وهو ما يقلب التوقعات رأسًا على عقب.


الشخصيات:

  • عيسى بن هشام: هو الراوي وبطل المقامة. يظهر في البداية كشخص بسيط يبحث عن إبله، لكن سرعان ما تظهر جوانب من شخصيته كأديب ذكي وناقد لاذع. هو يمثل المثقف الواعي الذي يرفض الانتحال الأدبي ويستهجن التناقض.
  • الشيخ (إبليس): شخصية محورية في المقامة. يظهر في البداية بهيئة شيخ حكيم ووقور يجلس في مكان جميل، لكنه يكتشف انتحاله لشعر جرير، ثم تتبين هويته الحقيقية كـ"أبي مرة" وهو كنية إبليس. هذا التحول من الحكمة الظاهرية إلى الانتحال والفسق يعكس السخرية من المظاهر الخادعة.
  • أبو الفتح الإسكندري: الشخصية الثانية التي تظهر في المقامة. يمثل نموذجًا آخر من شخصيات الهمذاني المحتالة، التي تستخدم البلاغة والشعر للتسول والتلاعب. لقاؤه بعيسى بن هشام في النهاية يربط بين شخصيتين متناقضتين في الظاهر، ولكنهما يتشاركان في حب المغامرة والسخرية.


الدلالات والأفكار الرئيسية:

  • نقد الانتحال الأدبي: من أبرز موضوعات المقامة هو نقد ظاهرة انتحال الشعر. يرفض الشيخ الانتحال، لكنه هو نفسه منتحل، مما يطرح سؤالاً حول الأمانة الأدبية في ذلك العصر.
  • الشعر الجاهلي والشعر الحديث: المقامة تقارن بين الشعر الجاهلي (امرؤ القيس، لبيد) والشعر العباسي (أبو نواس). الشيخ لا يطرب للشعر الجاهلي، بل يفضّل شعر أبي نواس، وهو ما يعكس تغيرًا في الذائقة الأدبية. إعجاب إبليس بشعر أبي نواس، الذي يشتهر بوصف الخمر والمجون، هو إشارة ساخرة إلى أن هذا النوع من الشعر قد يروق لأصحاب الفسق.
  • الرموز والدلالات: المقامة غنية بالرموز، مثل إبليس الذي لا يمثل الشر المطلق، بل يمثل الانتحال والخداع. الحوت المصرور في البحور يرمز إلى الجهل الغامض، أو ربما إلى شيء صعب المنال. النحي الصغير الذي يدور حول القدور يمكن أن يكون رمزًا للكتاب أو الحيلة. أما "أبوه حجر وأمه ذكر" فهو وصف طريف للمسحرجة، وهو ما يكشف عن ذكاء الهمذاني في استخدام الألغاز.


الخاتمة:

تختتم المقامة بشكل مفتوح، حيث يكتشف عيسى أن أبا الفتح قد تلاعب بإبليس نفسه. هذا التناقض بين الخداع الأكبر (إبليس) والخداع الأصغر (أبو الفتح) يبرز فكرة أن الحيلة والخداع متأصلان في طبيعة بعض البشر.

بشكل عام، المقامة الإبليسية هي قطعة أدبية فريدة تجمع بين السرد القصصي، والنقد الأدبي، والكوميديا الساخرة، مما يجعلها عملًا أدبيًا خالدًا يجسد عبقرية بديع الزمان الهمذاني.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال