ثمة عوامل موضوعية فرضت التغيير في حجم الأسرة الخليجية، حيث كانت لأسباب اقتصادية في السابق (الإنتاج المشترك، العمل في الغوص أو التجارة) يمكن أن توصف بأنها عائلة ممتدة.
إن مجتمعات الخليج وتطورها الحالي والمستقبلي من حيث المحتوى أكثر تعقيداً من مجتمعات أخرى نامية أو متطورة، وذلك لأسباب موضوعية وعناصر خاصة بهذه المجتمعات. إنني أزعم أن مجتمعات الخليج والجزيرة العربية في هذه الفترة التاريخية، (منذ منتصف هذا القرن، وربما إلى نهايته أو إلى منتصف القرن القادم)، يمكن أن يطلق عليها مفهوم الانتماء إلى "العالم الرابع".
ويمكن أن نقول إن مجتمعات الخليج تملك هاتين الصفتين: الدخل القومي المرتفع، والتخلف في التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك قلة عدد السكان بالنسبة للدخل القومي.
من هذا التحليل الأول يمكن القول: إن مجتمعات الخليج تنتمي إلى "العالم الرابع" الذي يحوي مظاهر من عناصر العالم المتقدم كارتفاع الدخل القومي والميل الاستهلاكي... إلخ، وأمراض العالم النامي كالأمية والخلل في توزيع الدخل وتخلف الإدارة([1]) .
وهو حكم أطلقه الكاتب قبل ربع قرن، ولا زالت عناصره الرئيسية - مع الأسف- موجودة وفاعلة في هذه المجتمعات. قبل نصف قرن كانت القبيلة هي الركيزة الأساسية، سواء كانت قبيلة العائلة الحاكمة أو القبائل الموالية أو "المختلفة والمعارضة" إن صح التعبير هي التركيب الاجتماعي السائد، تسانده الأسرة الممتدة والطائفة، وفي هذا الإطار لم يكن جهاز الدولة قد بدأ في النمو، كان ذلك صحيحا منذ ثلاثة عقود ومازال صحيحا اليوم في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
"على الجانب الآخر نجد أن الجماعات المهاجرة إلى أقطار الخليج النفطية ساهمت من جملة مساهمات أخرى – رغم القوانين التي تحد من تحركها الاقتصادي والاجتماعي- في خلق تأثير اقتصادي اجتماعي كبير، سواء من حيث نظم المعيشة أوالعادات أوحتى اللهجات، وهذه عناصر لا يمكن التعرف عليها وإظهارها بشكل كمي إلا من حيث المساهمات الاقتصادية، فقد قام على عاتق هؤلاء الوافدين هنا
-ومعظمهم من العرب وبعض الإيرانيين والهنود – العبء الأكبر من البناء التحتي للاقتصاد، وساهموا في الخدمات الاجتماعية التي افتقدت الدولة عناصر كفوءة في بداية الأمر لإدارتها وتطويرها، لذا فإن اختلاط هذه المجاميع البشرية قد أثر في التنمية الاقتصادية والاجتماعية في مجتمعات الخليج تأثيراً من الأهمية بمكان دراسة مؤشراته الإيجابية والسلبية"([2]). إلا أن موضوع الهجرة و "المواطنة" مازال يشغل -وقد يشغل في المستقبل- حيزاً كبيراً من النقاش السياسي والاجتماعي. ولكن إن أخذنا التجارب السابقة في الخمسين سنة الأخيرة، فإن يقينا مؤكدا أن هذه المجتمعات سوف "تهضم" هذه الهجرة، وتتكيف الهجرة العربية وتنسجم في المجتمع مثلما انسجم من سبقها، وقد تتكيف الهجرات الأخرى، الإيرانية والهندية. إلا أن المجتمع في الخليج سيكون "تعدديا" لسببين أساسين: الأول هو حجم القادمين الجدد، والثاني هو الاعتراف الذي تفرضة ثقافة العولمة على ثقافة المجتمع بأن "الأصل" ليس عيبا، بل هو إيجابي ومقبول.
الاتجاه إلى تكوين أسرة نووية هو التوجه الأكثر ملائمة للاقتصاد الجديد، فقد تفرعت مجموعة من الظواهر الاجتماعية في الأسرة الخليجية المعاصرة، نذكر منها الاستقلال الاقتصادي لأفرادها الذي بدوره حرر هؤلاء الأفراد من الوصاية السابقة في إطار الأسرة الممتدة. فأصبح اتخاذ القرار للابن والابنة –إذا كانت تعمل ولها دخل خاص بها– إلى حد كبير قرارا شخصيا سواء في الأمور الرئيسية المعيشية كاختيار الرفيق الآخر، (الزواج)، بالنسبة للفتى وللفتاة، أو التصرفات الشخصية واكتساب القيم الجديدة التي كانت مرفوضة في السابق كالخروج إلى العمل بالنسبة للمرأة، وهو توجه سوف يستمر في حال احتمال السيناريو الثالث "الخليج الخصب".
لقد أصبحت الدراسات السكانية من العلوم الإحصائية القائمة بذاتها، "وتعتبر المعلومات المتعلقة بعدد السكان وخصائصهم وتوزيعاتهم ذات أهمية عند وضع السياسات المرتبطة بالبرامج التخطيطية"([3]) في مجالات التنمية البشرية بوجه عام.
ومع ازدياد حجم السكان وفرص التعليم المتاحة، وعدم مرونة النظام "البدوقراطي الأبوي"، وذوبان البناء الاجتماعي، فإن زيادة حجم السكان ظاهرة ملفتة للنظر في مجتمعات الخليج، فمعدلات الزيادة السنوية بلغت 8 إلى 10 % في بعض الأقطار (الكويت، قطر، الإمارات) وهي ناتجة إما عن الزيادة السنوية لعدد المهاجرين من أجل العمل، أو الزيادة الطبيعية للسكان (المواليد) ([4]).
وفي جميع أقطار الخليج تعد الزيادة الطبيعية من أكبر النسب العالمية، فهي تتراوح بين 3 – 4 % ، والزيادة هذه –بشقيها الطبيعي والمهاجر– تزيد على الطلب الاجتماعي للخدمات المتاحة وتعيق من جهة أخرى سير العملية الإدارية، حيث لا تسير نسبة التوسع في الخدمات مع الزيادة الحاصلة في عدد السكان هناك.
وتمثل مشكلة الزيادة السكانية الناتجة عن الفجوة الحاصلة بين النمو السكاني والحاجات الغذائية والسلع الأخرى الضرورية اللازم توفيرها محلياً في مجتمعات دول الخليج العربي، تمثل تلك الزيادة السكانية إحدى معوقات التنمية في تلك الدول. إلى جانب ما تسببه من تفاقم حجم البطالة وانخفاض مستوى المعيشة والرعاية الصحية.
ومن ثم تكتسب مشكلة الزيادة السكانية أهميتها وأثرها السلبي في المجتمع حينما نضع تلك الزيادة مقابل حركة النمو الاقتصادي والظروف المحيطة به.
فالعلاقة بين النمو السكاني والتنمية الاقتصادية ليست علاقة أحادية الجانب، بمعنى أن الأمر لا يمكن أن يقتصر على دراسة وعلاج مشكلة النمو السكاني المتزايد، بل يجب ربط هذا النمو بالمشكلة الاقتصادية والاجتماعية التي تظهر معالمها بوضوح في الولادات والوفيات والنزوح أو الهجرة وغيرها.
وبالرغم من الزيادة السكانية نسبياً في دول مجلس التعاون الخليجي، إلا أنها تمكنت من تحقيق إنجازات ملموسة في مجالات التنمية البشرية والاجتماعية، حيث استمر تحسن العديد من المؤثرات الاجتماعية مع تفاوت فيما بين تلك الدول. وقد شمل ذلك التحسن معاملات القراءة والكتابة بين البالغين والشباب، ومعدلات الالتحاق بمراحل التعليم المختلفة، وفرص النفاذ لتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، إضافة إلى ارتفاع متوسط العمر المتوقع عند الولادة ونسبة السكان الذين يحصلون على مياه الشرب الآمنة والصرف الصحي وتراجع معدلات الوفيات([1]).
وعلى الرغم مما تشكله "الهجرة" من مشكلات آنية في مطلع القرن الحادي والعشرين إلا أنه ما إن نصل إلى نهاية ربعه الأول (2025) حتى تنعكس الآية ويصبح الفائض ندرة. وقتها ستكون "العمالة" الخارجية في وضع الندرة نتيجة عدد من العوامل: الأول هو التطور الاقتصادي والاجتماعي في مناطق الدفع (العربية، والآسيوية)، إلا أن الندرة الآسيوية ستكون ملحوظة، خاصة في الأعمال المتعلقة بالمنازل والأعمال اليدوية والداخلية. والعامل الآخر هو ضغط المنظمات الدولية باتجاه "حقوق الإنسان" والاتجار بالبشر، التي ستلاحق حكومات ومؤسسات الخليج، مما يدفعها إلى تقنين التدفق البشري، ورفع شروط قبول العمال على القطاع الخاص والحكومي، من اشتراط مكافآت أكبر، وتأمين صحي واجتماعي، وشروط سكن وتعليم. لذا فإن المنطقة بأكلمها ستواجه وقتها نوعين من المشكلات "التوطين" والتأمين الاجتماعي.
ولقد ركزت المؤتمرات العالمية لتنظيم الأسرة على أهمية تحسين دور المرأة وتعزيزه، لما لهذا الدور من تأثير على حياة الأسرة وحجمها، وبالتالي على تطور المجتمع. ونرى أنه يجب أن يتم توفير الدعم المجتمعي بهدف دمج المرأة وإشراكها كاملا في جميع مراحل ووظائف عملية التنمية. ويجب إزالة العوائق المؤسسية والاقتصادية والثقافية المعوقة لمشاركتها المجتمعية، كما يجب اتخاذ الإجراءات السياسية والعملية التي تحقق المساواة الكاملة للمرأة مع الرجل في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، لتستطيع النهوض بدورها في بناء المجتمع والمساهمة الإيجابية في تنميته.
([1]) معوقات التنمية الاجتماعية والاقتصادية، في مجتمعات الخليج العربي المعاصرة، للدكتور محمد غانم الرميحي، دار الجديد، بيروت، ط/2/1995م، ص 18 ، 19
([2]) د. محمد الرميحي ، المرجع السابق ، ص 33
([3]) المجموعة الإحصائية السنوية Annual statistical Abstract 2005 وزارة التخطيط – قطاع الإحصاء والتعداد ، دولة الكويت، العدد / 42، ص 41
([4]) معوقات التنمية الاجتماعية والاقتصادية في مجتمعات الخليج العربي المعاصرة، للدكتور محمد غانم الرميحي، مرجع سابق ، ص 28 – 29
([5]) التقرير الاقتصادي العربي الموحد، سبتمبر (أيلول) 2006 ، ص 17
التسميات
اقتصاد الوطن العربي