المثل.. إيجاز اللفظ ورحابة المعنى.. هو تلك العبارة القصيرة التي تحتوي على التجربة مكثفة غاية التكثيف مشارا إليها بأوجز الكلام وأدق التمثيل

 الإيجاز والإطناب.. الإجمال والتفصيل.. التلخيص والشرح؛ ثنائيات تقابلية تؤدي معنى واحدا؛ أو قل حقيقة واحدة تحكم سلوكنا الإنساني في كثير من مناحي الحياة والمعاملات؛ فبين الفعلين تتناوب أفعالنا حسب مقتضيات الحال ومقاماته المختلفة؛ فالإيجاز يكشف رغبتنا وحسنا العملي الذي ينحو بنا دائما إلى الاختصار والتلخيص؛ إلى أقصر الطرق وأقلها كلفة ومئونة.. إلى ما خف وزنه (أو ضاقت مساحته أو قل حجمه)، وغلا ثمنه وعظمت قيمته.

في اختيارنا للأثاث يمثل هذا المقياس غالبا معيارا للاختيار والمفاضلة؛ فنفضل أقلها حجما وأعظمها فائدة؛ وحبذا لو تعددت أغراض الاستخدام للسلعة نفسها (النموذج الصيني في الصناعة والتسويق)، وحبذا أكثر لو أمكن تقليص حجمها وطيها حال الاستغناء عنها مؤقتا؛ ثم إعادتها مرة أخرى إلى حجمها لإعادة الاستفادة منها واستخدامها... هذا يحدث لنا جميعا في اختيار الأثاث والأمتعة، وخصوصا مع تعاملنا مع تلك المساحات المكانية الضيقة التي بتنا نعانيها ونكابد في التغلب على مشكلاتها.

هذه النظرية النفعية ذاتها تنطبق على فنون القول الكلامية؛ فيصير "أبلغ الكلام ما حسن إيجازه".
ويكون "خير الكلام ما قل ودل، وجَلَّ ولم يُمِلّْ".
ولا عجب في ذلك ففنون القول المختلفة لا تنفصل عن الحياة اليومية ومتطلبات العيش، بل هي انعكاس لتجاربنا اليومية بكل ما فيها من ضيق ورحابة، ومن اكتناز واتساع.

لعل كل ما قلناه سابقا عامًّا مرسلا، ولنا الآن أن نخصص هذا العام ونوضح بيانه بمطابقته على فن "المثل"؛ الذي يصح أن نصفه بأنه فن الإيجاز باقتدار؛ وذلك بحكم تركيبته اللغوية، وبنيته الدلالية، هذا بالضبط ما تنطق به تعريفات الدارسين له؛ "فالمثل أكثر صور التعبير/التشكيل الشعبي إيجازا، وأكثرها في الوقت نفسه- حبلا بالتجربة والخبرة... وبعبارة أخرى فإن المثل هو تلك العبارة القصيرة، التي تحتوي على التجربة مكثفة غاية التكثيف، مشارا إليها بأوجز الكلام وأدق التمثيل".

إن "المثل" مصطلح يدل علي جنس أدبي شائع في تراث الأمم والشعوب علي اختلاف عصورها ومراحلها، وهو فن أدبي قائم على تحقيق المعادلة الصعبة .. بلاغة الإيجاز، وعمق المغزى.

إن في العبارة السابقة من تعريف المثال "أكثرها... حبلا بالتجربة والخبرة" إجمالا لحقيقة المثل وبلاغته؛ إنه نص يضمر في داخله أكثر بكثير مما قد توهمه بنيته اللغوية القصيرة.

وهذه العبارة ذاتها هي مفتاح قراءة كتب الأمثال؛ فبفهمها نتفهم بنية كتاب مثل "مجمع الأمثال"؛ إذ نجده يتشكل من مستويين من الكتابة: بنية المثل؛ أي: لفظ المثل في إيجازه واختصاره، وحكاية المثل؛ وهي شرح المثل وسرد مناسبة قوله إن وجد؛ إنها بمثابة المخاض الذي ينتهي هذا الحبل بالتجربة والخبرة.

إن هذا المخاض قد يتوقف عن حدود العبارة الشارحة كما في النماذج التالية:

إِنَّ النِّسَاءَ شَقَائِقُ الأَقْوَامِ: الشقائق، جمع شقيقة، وهي كل ما يشق باثنين، وأراد بالأقوام، الرجال، على قول من يقول: القوم يقع على الرجال دون النساء ومعنى المثل، أن النساء مثل الرجال وشقتهم فلهن مثل ما عليهن من الحقوق.

إِذَا زَلَّ الْعَالِمُ زَلَّ بِزَلَّتِهِ عَالََمٌ: لأن للعالِم تبعاً فهم به يقتدون. قال الشاعر:

إن الفقيه إذا غوى وأطاعه
قوم غووا معه فضاع وضيعا
مثل السفينة إن هوت في لجة
تغرق ويغرق كل ما فيها معا

جَلَبَتْ جَلَبَةً ثُمَّ أَقْلَعَتْ: أي صاحت صيحة ثم أمسكت. ويروى، بالحاء. ويقال: يراد بها السحابة ترعد ثم لا تمطر. وهو من الجلبة يقال: جلب على فرسه يجلب جلبة إذا صاح به. يضرب للجبان يتوعد ثم يسكت.

جَعَلَ كَلاَمِي دُبُرَ أُذُنَيْهِ: إذا لم يلتفت إليه، وتغافل عنه.

وفي مواضع أخرى تقابلنا تتمة المثل متوسلة بفن السرد، وكأنها تفصل لنا بعد بنية المثل المجملةِ حكايةَ العالم الذي نحيا فيه، ورسم قواعده ومبادئه، إنها حكاية ينص الميداني على غرضه منها بقول: "وذكرتُ في كل مَثَل... من القَصَصِ والأسباب ما يوضِّح الغرض".

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال