حركية الإبداع عند خالدة سعيد.. ملامح الإبداع العربي الجديد من خلال المنهج الانطباعي والمنهج البنيوي



خالدة سعيد باحثة وناقدة، وهي زوجة الشاعر الكبير أدونيس، وضعت بعد عشرين عاماً من كتابها الأول (البحث عن الجذور) 1960 كتابها الثاني: (حركية الإبداع: دراسات في الأدب العربي الحديث) 1979، رسمت فيه ملامح الإبداع العربي الجديد في ثلاثة أجناس أدبية هي: الشعر، والرواية، والقصة القصيرة، من خلال منهجين نقديين هما: المنهج الانطباعي، والمنهج البنيوي.

ولأن الذي يهمنا هنا هو (المنهج البنيوي) الذي درست على ضوئه قصيدتي (هذا هو اسمي) لأدونيس، و(النهر والموت) للسيّاب، فإننا سنناقش تحليلها البنيوي لهاتين القصيدتين.

في تحليل القصيدة (هذا هو اسمي) لأدونيس بدأت بتطبيق المنهج البنيوي، لتصل منه إلى الدلالي (أو المضمون) وهي تسمّيه (المستوى الإشاري).

وقد أولته اهتماماً بالغاً بوصفه مستوى من التحليل ينصب على بنية النص اللغوية باعتبارها إشارات ورموزاً تنتج الدلالات بعلاقاتها.

إن دراسة مكونات النص وأنساقه اللغوية على ضوء علاقات الوحدات التعبيرية على المستويين الأفقي والعمودي هي ما قامت بتطبيقه، مستخدمة مصطلح (النظام) وتعني به (النسق) اللغوي الموّلد للدلالة بانتظام الألفاظ في علاقاتها.

وقد حاولت الباحثة الجمع بين منهجين نقديين هما: البنيوية الشكلية والدلالية (أو السيميائية)! أو أنها خرجت على المنهج البنيوي الشكلي الذي لا يقول بدلالة (أو مضمون).

فإذا اعتبرنا هذا (خروجاً) على المنهج البنيوي الشكلي فهل يمكن اعتباره (اجتهاداً) في المنهج؟ أم عدم فهم لمقولات المنهج؟
الواقع أن هذه هي مشكلة أساسية في تلقينا للمناهج النقدية الغربية: فهنالك جوانب قصور في هذا التلقي.

قد تكون أسبابها جدّة المنهج وعدم اكتماله حتى في بلد المنشأ، مما يجعله يُبنى مقولة مقولة، كما أن الاختيارات التي تحكم الترجمات تجعل (العلم) خاضعاً، أحياناً، لذائقة المترجم وانحيازه الشخصي.

يُضاف إلى ذلك اختيارات الباحث نفسه: فعدم استيعابه لمقولات النقد يوقعه في "التوفيقية" بين مناهج عديدة.

ومحاولة الباحثة التوفيق بين (المضمون) والمنهج البنيوي الشكلي من هذا النوع، لأن البنيوية الشكلية لا تعترف بالمضمون، وقد انصبّ اهتمامها على (الدلالة) أكثر من (البنية).

كما لم تتخذ (بنية) شاملة، بل معاني جزئية عابرة من هذين المنهجين إلى منهج ثالث (تأويلي) يجعل الناقد عالماً ومحيطاً بكل شيء.

ومنذ البداية تحكم الباحثة على القصيدة حكم قيمة (على الرغم من أن المنهج البنيوي لا يأخذ بحكم القيمة، لأنه يكتفي بالوصف وحده).
وحكم القيمة الذي تطلقه الباحثة على القصيدة هو إنها: "جديدة مخالفة للمألوف من حيث الطريقة التي صُفّت بها الكلمات. وعندما نبدأ القراءة يفاجئنا نظام الأصوات، أي الوزن". (ص 87).

والجديد الذي أدهش الباحثة هو الطريقة التي صُفّت بها الكلمات، أو نظام كتابتها، بحيث يمكن أن تُقرأ كيفما شاء القارئ، لأن الشاعر لم يحدد الجمل بعلامات ترقيم، وإنما ترك الحرية للقارئ كي يضع علامة الترقيم في الموضع الذي يريده. والعبارة هي:
أرض تدور حولي أعضاؤك نيل يجري
وهي قابلة للقراءة على أكثر من وجه، فيمكن أن تُقرأ:
1- أرض تدور حولي أعضاؤك. نيل يجري.
2- أرض تدور. حولي أعضاؤك نيل يجري.
3- أرض تدور حولي. أعضاؤك نيل يجري.

وهذا التشويش المقصود من قبل الشاعر فيه مقتله إذا لم يقم القارئ بدوره في وضع علامات الترقيم في وضعها الصحيح.

لكن أدونيس بهلوان حاذق لا يقتصر تجديده على التبدلات الظاهرة التي تخاطب الحواس، وإنما يردفه برؤيا شعرية متحولة إلى المستقبل، ومتجاوزة ما سبقها: فالشاعر الرومانسي المجدد يصبح متخلفاً مثلاً بمقارنته مع شاعر الشعر الحر، وهذا يصبح متخلفاً أمام شاعر قصيدة النثر أو الكتابة الجديدة.

وهذا ما ينقذ الشعر من الرتابة والجمود.
وقصيدة (هذا هو اسمي) هدم لمبدأ الاستقرار الشعري، وإعلان لشرعة التجاوز والتغيّر.

ومثل هذا الشعر لا بد له من قارئ مماثل له في المستوى الفني، ذلك أن القارئ هو القطب الثاني في العملية الإبداعية، وعليه أن يتجاوز دوره السلبي كمجرد متلقٍ، إلى المشاركة الفاعلة في العملية الإبداعية.

فالقصيدة هي لقاء كما يقول هيدجر، وهي مثير ومحرّض على المغامرة كما ترى جماعة (تل كل) البنيوية الفرنسية التي ترى أن القارئ هو الصانع الثاني للنص، وأنه يضعه على هواه، أي يملؤه بأبعاده الشخصية.

وعلى هذا فإن القصيدة الكاملة لا وجود لها، لأنها كامنة في ما سيأتي، أي في المستقبل.
في تحليل القصيدة تستبعد الباحثة ما كان يسمى عادة بالشكل والمضمون. فنحن إزاء الشكل /المضمون.
لأن ما كان يسمى عادة بالشكل يتخذ هنا طبيعة جديدة. إنه الموقف والنظام من العلاقات الداخلية والحركة.
ولكن هذا يظل مجرد تنظير لا أكثر.

ثانياً ترى الباحثة أنه ليست للقصيدة هندسة مغلقة ثابتة، لأنها دفعة أو حركة، وليس لهذه الحركة بداية أو نهاية.
إذ تبدأ القصيدة وكأنها إضاءة مفاجئة لحركة كانت مستمرة من قبل.
ولا تنتهي بل تستمر حتى بعد أن يسكت الشاعر.
ذلك أن القصيدة موجة لا بيت.

وهذا يعني أن القصيدة تخلّت عن المسار الخيطي الذي يتتبع مجرى الفكرة أو الصورة عبر الأقنية الواعية، وهو الشائع عند عامة الشعراء، من أجل (القصيدة الشبكية) والاتجاهات والمحاور المتقاطعة التي تبدو أكثر انسجاماً مع صوفية أدونيس التي تصالح الأضداد، حيث لا تخضع القصيدة لمبدأ التسلسل المنتظم، بل تصبح أقرب إلى مبدأ التفاعل المسلسل في انشطار الذّرة، وذلك أن مؤثراً ما يُحدث إصابةً فيحرّض فكرة أو صورة تحرّض بدورها صورة أو أكثر، وتحرّك هذه الصور صوراً أو فكراً غيرها لذلك يُنظر إلى القصيدة كمجموعة من التفجرات تحدث في المدن السفلى القابعة تحت الأحزان.

هذا التفجر ليس من نوع التداعي المعروف، بل يرجع إلى طبيعة نظام العلاقات الداخلية الذي يقوم على تقابل الأضداد..
وبعد صفحتين من الرسوم التي خطّطت فيها الباحثة بعض جمل القصيدة على شكل دوائر وخطوط متوازية ومتقاطعة، تصل إلى معالجة (مسألة الإيقاع) التي لا تعني عندها مجرد الوزن الخليلي، وإنما تراه بمعناه العميق، لغة ثانية لا تفهمها الأذن وحدها، وإنما يفهمها، قبل ذلك، الوعي الحاضر والغائب.

وهذا يعني أن الإيقاع ليس مجرد تكرار الأصوات والأوزان تكراراً يتناوب تناوباً معيناً، وليس عدداً من المقاطع، ولا قوافي تتكرر بعد مسافة صوتية معينة لتشكل قراراً.
فهذه كلها عناصر إيقاعية، ولكنها جزء من كلّ واسع متنوع.
وفي هذه القصيدة تتوالى المقاطع الهذيائية والإيقاعية، وأمواج التوتر والانبساط.

ويحدث الانتقال بين هذا وذاك بحركة التفافية حلزونية هابطة في غور الهذيان، أو إشراقية صاعدة نحو المقطع الغنائي.
وهكذا ينتقل الشاعر من تفعيلات البسيط (مستفعلن، فاعلن) إلى تفعيلات المتدارك (فاعلن، فاعلن) فلا يجيء الانتقال انقطاعاً مفاجئاً بل انعطافاً.

وإذا كان هذا التحليل الذي كتبته الباحثة عام 1970 وحرصت فيه على إثبات تاريخه؛ ليس بنيوياً شكلياً، ولا دلالياً، وإنما توفيقياً بين شيء من هذا وذاك، وأضافت بعض التوابل الانطباعية (حكم القيمة)، فإن تحليلها لقصيدة (النهر والموت) للشاعر بدر شاكر السياب، بعد ثماني سنوات، جاء (دراسة نصيّة) أكثر منهجية بنيوية، وإن لم تلتزم فيها أيضاً بكل المقولات البنيوية.

ويتجلّى ذلك في مخططها الذي وضعته في دراسة القصيدة:

1- التقاط الانطباعات الأولى:

لفت نظرها تكرار لفظة (بويب) تسع مرات، فضلاً عن كلمة (النهر).
وهي ترد دورياً كنوع من اللازمة أو العنصر النغمي المميز الذي يسم الكلام بطابعه، حيث ترد لفظة (بويب) في مطالع المقاطع أو في نهاياتها، بتكرار منظم، عبر صيغة النداء، مما يوحي بجو طقوسي.

وترد (كاف المخاطبة) التي تعود إلى النهر عشر مرات، ويرد (ضمير المتكلم) فاعلاً ثماني عشرة مرة، مما يسمح بالاستنتاج بأن أبيات القصيدة ستكون مسرحاً لعلاقة بين النهر والمتكلم.

2- الحقل الذي تنتمي إليه الكلمات:

يغلب عليه طابع (الماء) فهناك ثلاثٌ وأربعون إشارة إلى الماء.
وكلمات القصيدة تتوزع على حقلين: الماء /والإنسان: فالمطر، والنهر، والجزر، والبحر، والسمك.. كلها تنتمي إلى الماء، ونسبتها 42 /45 أي 7 /9 مقابل 58 إشارة إلى الإنسان....

3- الأفعال والمجال الذي تتم فيه:

وفيه تلاحظ الباحثة أن الأفعال التي بصيغة الغائب تتم في حيز طبيعي خارجي (الأبيات 1 –7) وتذكر بسديم الطوفان. والحركة الزوالية هنا ليست عدمية، لأنها تبطن وعداً بالعودة أو الولادة.

وانطلاقاً من البيت الحادي عشر يتحرك الفعل (أودّ لو) أربع مرات، مولداً سلسلة من الأفعال تجيء في إطار التمنّي، مشروطة بلو، وتجري في حيّز ينتمي إلى الحلم، وذلك حتى البيت الرابع عشر.

وبدءاً من البيت الخامس عشر وحتى الثاني والعشرين أفعالها تدل على الرغبة في الحس والامتلاء، في حين أفعال الأبيات (23 –26) إخباراً، وأفعال الأبيات (35 -50) مسندة إلى ضمير المتكلم، ومرتبطة بالواقع المباشر.

4- العلاقات وتحوّلاتها:

وفيها ترى الباحثة أن (الحركة الأولى) الغالبة على المقطع الأول هي حركة طيّ ونشر، أو هي حركة تواتر بين المنغلق والمنفتح، نتيجة (البيتين 2 و3).
تليها علاقة نفاذ أو تحرر أو غياب (البيت 4 و5).

والعلاقة بين الحركتين علاقة جدلية: فعلاقة الاحتواء هي حالة ضياع.
وعلى الرغم من أن حركة المقطع دائرية، فإن الدائرة ليست مغلقة، لأن إيقاع الأبيات هو إيقاع تحول وولادة: فالأجراس (عنصر ترابي) يحتويها الماء.

والماء تحويه الجرار (عنصر ترابي)، والجرار تلد الماء. والشكل يعود سائلاً...
في (الحركة الثانية) تحولات العلاقة بين الإنسان والنهر والكون. وتتجلّى في الأبيات (11 –34) حيث تنمو هذه الحركة عبر دوائر أربع: فإذا كان الإنسان في الدائرة الأولى جنيناً بشّرت بولادته كلمة (أنين)، فإنه في الدائرة الثانية يصبح طفلاً يتحرك فوق مسرح النهر، وفي الدائرة الثالثة يبلغ سن الرجولة (عشرون قد مضين).

وفي الدائرة الرابعة يتولّد المناخ الأسطوري من طبيعة العلاقات بين الإنسان والنهر الذي تقدم لـه النذور، ويكشف عن وجه إله الخصب.
في (الحركة الثالثة) (الأبيات 35 –50) تتأكد العودة إلى نداء النهر، والخروج من دائرة الحلم والأسطورة.

حيث تبدأ مرحلة وعي وتبادل الوضعية بين الرائي والمرآة، وتنتهي بمرحلة الفعل حيث تتبدل العلاقة مع القدر من العبادة والنذور إلى المجابهة.

في (الحركة الرابعة) (البيت 51) يدفع الشاعر بالأبعاد الإنسانية نحو الأفق الميتافيزيقي، ثم تنتقل الباحثة إلى معالجة (الصورة) على الرغم من أنها ليست من المقولات البنيوية، فترى أن صور القصيدة تؤسس اللحظة المأساوية التي تختتم القصيدة.

وإن الصور، في ما تقدمه، من مفارقات، تعكس ما يجابه وجدان الشاعر من ظلم أو هلاك غير مبرر، تعّبر عنه تساؤلات العبثية، غير أن المأساوية هنا ترسم طريقاً معاكساً للمأساوية اليونانية.

ذلك أن المأساة اليونانية تقوم على الهلاك كثمن للتفوق وخرق الحدود: فـ أنتيغونا التي دفنت أخاها متحدية إرادة السلطة، واجهت الهلاك. وأوديب الذي صدقت النبوءة فيه، فقأ عينيه.

وبيتهوفن أصيب بالصمم ثمناً لعبقريته في السمع. ونيتشه أصيب بالجنون ثمناً لعبقرية رؤياه. بينما تقوم المأساة في هذه القصيدة على الهلاك أولاً، ثم يتم خرق الحدود بعد ذلك.

ثم تعرّضت (للرمز) الرئيسي في القصيدة،  وهو(النهر) الذي يحمل دلالات تتدرج من المستوى الواقعي، باعتباره مجرى مائياً، إلى المستوى الميتافيزيقي، حيث يصبح مرآة ومعبوداً.

ثم إلى المستوى الذاتي حيث نراه رحماً وحضناً كونياً، ونبع حياة وباباً خفياً للموت.
وهكذا اضطربت خالدة في تحقيق ممارسة نقدية في ضوء المنهج البنيوي في نقدها لقصيدتي أدونيس والسيّاب، حين اعتمدت بعض مقولات هذا المنهج، ونبذت مقولات أخرى.

ولعل سبب هذه "التوفيقية" هو التلقي المبكر لهذا المنهج (في عام 1970) حيث لم تكن مقولاته قد توضّحت تماماً، ولم تكن الترجمات التي عرّبته شاملة جميع أبعاده.