ازدهار المدرسة:
فرض الدور الاقتصادي للمدرسة نفسه في الصدارة خلال الحقبة التالية للحرب العالمية الثانية، في سياق نمو اقتصادي قوي ومستديم، واختراعات تكنولوجية عظيمة وطويلة الأمد - كهربة سكك الحديد، بنيات ارتكازية بالموانئ والمطارات، طرق سيارة، طاقة نووية، تلفون، بترو كيمياء. وزالت فرص عمل كثيرة في قطاعات كانت دوما مستهلكا ضخما للعمل اليدوي ضعيف التأهيل.
ارتفاع مستوى تعلم العمال والمستهلكين:
ففي بلجيكا على سبيل المثال، انتفت 52% من فرص العمل المأجور بالزراعة من عام 1953 إلى1972.
وبلغت النسبة المنتفية بقطاع مناجم الفحم الحجري 78%، وبمقالع الحجارة 39%.
غير أن تلك الخسارات تم تعويضها بشكل واسع في قطاعات أخرى:
أولها الصناعة: صناعة الحديد (+ 10%) والكيمياء ( + 36% ) والإلكترونيك والإليكتروتيكنيك (+ 99%) والطباعة (+ 39%).
وثانيا في قطاع الخدمات: البنوك (+ 131%)، كاراجات (+ 130%) والإدارات العمومية (+39%). اذن لم تكن المرحلة تتطلب نمو اليد العاملة المأجورة وحسب، بل أيضا وبوجه خاص ارتفاعا عاما لمستوى تعلم العمال والمستهلكين.
ازدياد الطلب على الطلب على التعليم الثانوي والعالي:
وقد تحقق ذلك الارتفاع عبر إضفاء الطابع الجماهيري massification بخطى فائقة السرعة على التعليم الثانوي، وبدرجة أقل على التعليم العالي.
ما كان لازما بوجه عام سن قوانين لأجل تمديد مدة التمدرس. لأن إدراك الآباء والشباب لتغير تركيب فرص العمل، و أملهم في الارتقاء الاجتماعي، عنصران حفزا الطلب على التعليم الثانوي والعالي.
وطبعا خابت تلك الآمال، وبات العامل المؤهل يتبوأ، في التراتب الاجتماعي، المكانة التي كانت للعامل غير المؤهل قبل ثلاثين سنة.
غير أن تلك الآمال ساهمت مع ذلك بشكل كبير في حفز جيل من أبناء الشعب للتعلم في المدرسة.
تطور التعليم العمومي:
ولنضف أن كل ذلك تحقق على حساب نفقات الدولة التي ما زالت آنذاك تمتلك الوسائل اللازمة: إذ أتاح النمو المستديم والاستقرار الاقتصادي تحقيق نمو مواز في المداخيل الضريبية والاستثمارات العمومية طويلة الأمد.
وهكذا انتقلت النفقات العمومية، ببلدان أوربا الغربية، من زهاء 3% من النتاج الداخلي الإجمالي خلال سنوات الخمسينات، إلى نحو 6%، وحتى 7% أحيانا كما في بلجيكا، في أواخر سنوات السبعينات. وتطور التعليم العمومي في كل البلدان. وفي البلدان ذات تقاليد تعليم طائفي قوية، خضع الأخير لتحكم متنام من الدولة، مقابل تمويل ملائم أكثر.
إضفاء الطابع الجماهيري على التعليم:
وكانت وتيرة إضفاء الطابع الجماهيري على التعليم مذهلة.
ففي فرنسا انتقلت نسبة الحاصلين على شهادة الباكلوريا خلال جيل من 4% سنة 1946 إلى أكثر من 60% في أواخر سنوات الثمانينات.
وفي بلجيكا، تضاعفت نسبة المتعلمين من شباب فئة 16 - 17 سنة بين عامي 1956 و 1978، حيث انتقلت من 42% إلى 81%.
في تلك الحقبة بكاملها، كان خطاب أرباب العمل حول التعليم خطابا كميا بالدرجة الأولى. كان من اللازم أن يتابع عدد اكبر من الشباب الدراسات الثانوية والعليا. وكان لازما أيضا تكييف كمي افضل لمختلف الُشعب مع حاجات سوق العمل. مذ ذاك، ظلت الأوجه النوعية لمطابقة التعليم مع الاقتصاد - محتوى ومناهج وبنيات - مسائل أقل أهمية.
ولم تتغير جوهريا طبيعة المدرسة الثانوية التي جرى إضفاء طابع جماهيري عليها في الفترة الممتدة من عام 1950 إلى 1980.
فرغم بعض الإصلاحات الطفيفة ظلت موادها الدراسية مستنسخة عن مواد العقود السابقة، بالأقل في ُشعب التعليم العام.
إعادة إنتاج التراتب الاجتماعي:
لكن إضفاء الطابع الجماهيري حفز أيضا نظام التعليم بصفته آلة لإعادة إنتاج التراتب الاجتماعي.
فعندما أُتيح التعليم الثانوي للجميع، لم يعد الانتقاء الاجتماعي يجري بشكل أساسي «تلقائيا» في متم التعليم الابتدائي، بل إبان مرحلة التعليم الثانوي نفسها.
قديما، ما خلا الاستثناء النادر، كانت «دراسة الآداب القديمة» التي تمهد لولوج التعليم العالي حكرا على أبناء النخب.
وكان أبناء الطبقات المتوسطة يتابعون دراسات ثانوية عامة «حديثة».
أما أبناء الشعب فيكفون عن الدراسة بعد التخرج من المدرسة الابتدائية، أو يتابعون ، نادرا، بضع سنوات من الدراسة الثانوية التقنية أو المهنية.
معجزة بيداغوجية:
وجاء إضفاء الطابع الجماهيري على المدرسة في ما بين عامي 1950 و 1980 ليغير ذلك التوازن «الطبيعي» الجميل.
إذ بدأ الأطفال يلتحقون بشكل كثيف بالمدارس الثانوية، ويجرب كثيرون حظهم في التعليم العام، لأن الطلب على اليد العاملة المؤهلة، في قطاع الخدمات والإدارة مثلا، يغري بآفاق الترقي الاجتماعي. وبحكم الواقع، بات الفرز يجري خلال سنوات الدراسة الثانوية.
وعلى نحو غير مباشر غدا إضفاء الطابع الجماهيري على المدرسة، إضفاء للجماهيرية على الفشل الدراسي والتكرار أيضا، بما هما شكل جديد للانتقاء التراتبي.
وفضلا عن ذلك، تبين أن ذلك الانتقاء يشكل دوما عبر«معجزة بيداغوجية» مثيرة انتقاء اجتماعيا.
تفاوتات طبقية:
أصبح الجميع يلتحق بالمدرسة الثانوية، في شعب مشتركة، ولكن أغلبية الأطفال الذين يخرجون «ظافرين»، ويجتازون الشعب الأكثر «نبلا» و يتابعون الدراسات العليا ذات القيمة والمانحة للقيمة، هم كما في السابق أبناء الطبقات ذات الحظوة.
هكذا غدت المدرسة، آلة «لإعادة إنتاج» التفاوتات الطبقية حسب تعبير بيار بورديو.
ونؤكد وجوب الكلام عن إضفاء الطابع الجماهيري على المدرسة وليس عن دمقرطة التعليم، رغم أن الخطاب الرسمي يروق له أن يخلط المفهومين.
وإذا كان مستوى ولوج التعليم قد ارتفع بالفعل بالنسبة لأبناء كافة الفئات الاجتماعية، فإن اللامساواة النسبية لم تتقلص مع ذلك.
وهكذا بين المعهد الوطني للإحصاءات INSEE أن الحركية الاجتماعية بفرنسا قلما تغيرت: فاحتمال حصول ابن موظف إطار على شهادة أعلى من شهادة ابن عامل، ظل دائما، اليوم كما قبل 30 سنة، بنسبة 80% تقريبا.
كان الطلبة المنحدرون من الطبقات الشعبية يمثلون، في ما بين عام 1951 و 1955، نسبة 18% من طلبة المدرسة الوطنية للإدارة و 21% من طلبة معهد البوليتكنيك.
لكن تلك النسب انخفضت، فيما بين 1989 و1993 على التوالي إلى 6 % و8%.
وكمثال آخر،لاحظ الباحثون بمركز Centrum voor Sociaal Beleid، أن ثمة داخل المجموعة الفلامانية ببلجيكا «فارقا ثابتا في المشاركة بالتعليم العالي بين أبناء الأسر بالغة التمدرس وأبناء الأسر ضعيفة التمدرس».
التسميات
مدرسة