التبسط وإزالة الحواجز بين المربي والمتربي للمساعدة في تسارع التعليم وتطور التربية

النفوس البشرية ضعيفة تحوي في داخلها مشاعر وعواطف، يجذبها المعروف، وتحب الأنس والتواضع، وتكره التعالي والتكلف، وتأنف الجفاء والعبوس وتقطيب الجبين. والتبسط وإزالة الحواجز بين المربي والمتربي كفيل بإيجاد بيئة مطمئنة تساعد في تسارع التعليم، وتطور التربية، واتساع مساحتها بشكل واضح، والناظر في هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- يجد ذلك واضحاً، ويرى الأثر الكبير الذي يحدثه هذا الأسلوب في النفوس.
- كان الرجل يأتي إلى مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يحجبه عنه بوابون يقول جرير بن عبد الله البجلي ـ رضي الله عنه ـ: «ما حجبني رسول الله منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي». وكان -صلى الله عليه وسلم- ربما أتاه الرجل لا يعرفه وقد أخذه الفزع يظن أنه يقدِم على الملوك، فيهون النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه ذلك؛ فعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: «أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل فكلَّمه فجعل ترتعد فرائصه فقال له -صلى الله عليه وسلم-: هوِّن عليك؛ فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد».
بل لقد كثر توارد الناس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «حتى كان آخر حياته يصلي جالساً لمَّا حطمه الناس». إن الناس لو كانوا يجدون وحشةً من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكونو يأتونه بهذه الجرأة ولا بهذه الكثرة. وحين يكون الوصول إلى المعلم أو المربي من الصعوبة بمكان فإن حلقات من التربية والتعليم في حياة المتعلم والمتربي ستكون مفقودة لصعوبة الاتصال.
إن الناظر في هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيرته يرى صوراً كثيرةً من تبسُّطه -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه مع كثرة أشغاله وجدية حياته، إنه مع ذلك يجد فرصة للمزاح معهم ومخالطتهم والدخول في أحاديثهم واستشارتهم وتسليتهم ومواساتهم. وإليك شيئاً من هديه -صلى الله عليه وسلم- في ذلك:
- عن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ قال في خطبة له: «إنَّا والله قد صحبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السفر والحضر، وكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير».
- وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: «إنْ كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ليخالطنا حتى يقول لأخٍ لي صغير: «يا أبا عمير! ما فعل النغير؟».
- روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج بالناس قبل غزوة تبوك؛ فلما أن أصبح صلى بالناس صلاة الصبح، ثم إن الناس ركبوا؛ فلما أن طلعت الشمس نعس الناس على أثر الدلجة، ولزم معاذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتلو أثره... ثم إن رسول الله كشف عنه قِناعه، فالتفت فإذا ليس من الجيش رجلٌ أدنى إليه مـن مُعـاذ فنـاداه، فقـال: يا معـاذ! قال: لبيـك يا نبي الله! قال: أُذْنُ، دُونَكَ! فدنا منه حتى لَصِقت راحلتاهما إحداهما بالأخرى. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما كنت أحسب الناس مِنَّا كمكانهم من البُعد، فقال معاذ: يا نبي الله! نعس الناس، فتفرقت بهم ركابهم ترتع وتسير، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: وأنا كنت ناعساً. فلما رأى معاذ بُشرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخلوته له قال: يا رسول الله! ائذن لي أسألك عن كلمة قد أمرضتني وأسقمتني وأحزنتني! فقال نبي الله -صلى الله عليه وسلم-: سلني عمّا شئت.... الحديث. بالتأكيد إن هذا السؤال عند معاذ كان حبيساً في نفسه منذ زمن، حتى إذا رأى انبساط النبي -صلى الله عليه وسلم- ورأى البِشْر في محياه استدعاه ذلك إلى سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فكم في نفوس أبنائنا وطلابنا من أسئلة وإشكالات ومشاكل لو وَجَدت نفساً بسيطة وقريبة لا يجد المتربي أو المتعلم أدنى كُلفة في التعامل معها، أو نفساً منبسطة تجذب الناس إليها، وحين لا يجد المتربون والمتعلمون هذه النفوس فلا شك أنهم سيبحثون عن نفوس أخرى!
- وعن سِماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمرة ـ رضي الله عنه ـ: كنت تجالس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: نعم! كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صلى الفجر جلس في مصلاّه حتى تطلع الشمس، فيتحدث أصحابه يذكرون الجاهلية، ينشدون الشعر ويضحكون، ويبتسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
- عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: « كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أفكه الناس».
قال مرعي بن يوسف الكرمي ـ رحمه الله ـ في كلامه عن المزاح: (.. اعلم أيدك الله، أنه لا بأس بالمزاح الخالي عن سفساف الأمور وعن مخالطة السفلة ومزاحمتهم، بل بين الإخــوان أهــل الصفــاء بما لا أذى فيـه ولا ضــرر، ولا غيبــة ولا شَيْن في عرض أو دين، بل ربما لو قيل: يُندب، لم يبعُد، إذا كان قاصداً به حسن العُشرة والتواضع للإخوان، والانبساط معهم، ورفع الحشمة بينهم، من غير استهزاء أو إخلال بمروءةٍ أو استنقاص بأحد منهم).
أفد طبعك المكدود بالجد راحةً
يجـم وعلِّله بشيء من المـزح
ولكن إذا أعطيتـه المزح فليكن
بمقدار ما تعطي الطعام من الملح
- وحين ندعو إلى الانبساط وإزالـة الحواجز مع المتعلم أو المتربي فلسنا نقصد بذلك أن يذوب المربي في شخصية المتربي، أو يذوب المعلم في شخصية المتعلم. مع العلم أن الذوبان وذهاب المهابة لا يقع إلا حين يتخلى المعلم أو المربي عن شخصيته الحقيقية ودوره الحقيقي، وعندها يتحول هذا الأسلوب (الانبساط وإزالة الحواجز) عن كونه سبباً لتحقيق أهداف التربية والتعليم إلى كونه شهوةً ورغبةً وإيناساً للنفس وموافقة للطبع لا غير.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال