ضوابط المعايشة التربوية والبعد عن الدخول في الخصوصيات.. عدم تغلب جانب التربية الجماعية على التربية الفردية

يجتهد المربي الناصح في تحقيق هذا المبدأ في واقعه التربوي ويسعى جاهداً في ذلك، ولكن ثمة ضوابط تضبط تطبيق هذا المفهوم على أرض الواقع يجدر بنا الوقوف معها وتوضيحها إزاء تطبيق هذا المبدأ التربوي، حتى يكون المربي على بصيرة من أمره، وحتى لا يقع في إفراط أو تفريط، وحتى نحفظ للمربي دوره المنشود في ظل هذه الضوابط:
أ ـ ألا تؤدي إلى التعلق المذموم بالمربي:
الأصل في العملية التربوية أن الفرد الذي يُدعى يجب أن تتركز الجهود التربوية في تربيته بتوثيق صلته برب العالمين، وأن تكون صلته القوية بالله ـ تعالى ـ وبمنهجه القويم وألاَّ يتعلق بالبشر، ولكن كثرة المعايشة والمخالطة غير المنضبطة بالمتربين والقرب منهم قد يسبب ذلك التعلق، لا سيما إن لم تكن لتلك المعايشة أهداف تربوية يسعى المربي لتحقيقها، واستحضارها في معايشته لمن يربيهم. فيجب على المربي التفطن لهذا الأمر، وأن تكون معايشته منضبطة بحيث لا يُكثِر منها، وأن تكون بحدود المعقول، وأن تكون مرسومة الأهداف، مستحضراً لها في معايشته، ومتى ما وجد المربي ظهور هذه الظاهرة في أحد المتربين، فيجب عليه تذكيره بالله، وتحذيره من خطورة هذا التعلق، وربطه بالله، وبالقدوة المعصوم - صلى الله عليه وسلم - ، وطرق بعض المفاهيم العلاجية كمفهوم الفرق بين الحب في الله والحب مع الله، وغيرها من المفاهيم التربوية.
ب ـ ألا يتغلب جانب التربية الجماعية على التربية الفردية:
التربية تقوم على عنصرين مهمين: الجماعية والفردية، ومتى اتكأت التربية على أحد العنصرين فهي تسعى لتبني قصراً في الرمال. ومعايشة المتربين ومخالطتهم والإكثار من ذلك قد يسبب الاتكاء على جانب الجماعية فقط، فيتربى المتربي على هذا العنصر الجماعي فقط، والذي يعيش الجانب الجماعي وحده سيبقى سمكة في ماء ما تلبث حين تفارقه أو تخرج منه أن تلفظ أنفاسها، وحين يعيش الشاب على التربية الجماعية وحدها، فهو مع ما يحمل من ثغــرات كبيــرة فـي شخصيــته ما يلبث أن يفقد المتربي إخوانه يوماً، فيرى نفسه أمام عَالَمٍ لم يعتد عليه. فلم يعتد أن يبقى فارغاً، ولم يتربَّ على اغتنام وقته والاستفادة منه.
فيجب على المربي التفطُّن لهذا الأمر خلال معايشته المتربين بحيث يكون هناك توازن في تطبيق المعايشة، وألاّ يكثر منها كثرةً تغلِّب الجماعية على الفردية، وينبغي عليه أن ينمي في المتربين الشعور بالمسؤولية الفردية، وأهمية التربية الفردية وأنها لا تقل أهمية عن الجماعية، متى ما شعر أن هناك تفريطاً في هذا الجانب.
ج ـ ألا تطول بالقدر الذي يؤدي إلى جرأة الشاب على من يربيه، وزوال الكلفة بينهم، بحيث تذوب شخصية المربي بين المتربين:
لأنَّ من فوائد المعايشة ومخالطة المتربين، كسر الحاجز الوهمي بين المربي والمتربين، ومن ثَمَّ تكون الشفافية والأريحية في التعامل فيما بينهم. ولكن هذا لا يسوِّغ أن تكون المعايشة سبيلاً إلى سقوط الهيبة بين المربي والمتربين؛ بحيث تصبح القضية أُخُوَّةً خاصةً مجردةً من معاني القيادة والتوجيه والتربية، فينبغي للمربي التفطن لهذا الأمر، وأن يكون هناك قدر من التقدير والاحترام والهيبة التي تكون بوابة لمعنى القيادة والتوجيه مع المتربين، وألاَّ تذوب شخصيته بكثرة المعايشـة؛ بحيـث تسـقط مـن يـده قضـية التوجـيه والتربية، فلا تكون بعد ذلك الاستجابة.
د ـ ألا تؤدي إلى إهمال المربي نفسه في الارتقاء:
في خضم معايشة المربي لمن يربيهم، ومخالطته إياهم، والسعي الجاد في تقديم النصح والتوجيه الذي يساهم في الارتقاء بهم، قد ينسى المربي نفسه وأن لها حقاً من الاهتمام والارتقاء بها، فمتى ما أهمل المربي نفسه في جانب الارتقاء بالنفس فلربما قاده ذلك إلى فقدان رصيده في يوم من الأيام، حتى يصبح المربي ليس عنده ما يعطي المتربي؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن ثَمَّ يفقد المربي صفة هي من أهم الصفات؛ وهي صفة العطاء؛ فنحن لا نريد أن يكون المربي كالشمعة تضيء للناس وتحرق نفسها، إنما نريده أن يكون كالشمس تضيء للآخرين مع حفاظها على خاصية التوهج في نفسها. فينبغي للمربي التوازن بين معايشة المتربين والارتقاء بهم، وبين الارتقاء بنفسه، والتزود بما فيه صلاحها وتزكيتها، وقربها من الله.
لذلك هناك نوع من العزلة الجزئية، يُقْصَد من ورائه العزلة للتربية، حيث يخلو المرء بنفســه ـ أحــياناً ـ بقـصد التعـبد، أو التزود من العلم، أو محاسبة النفس، أو نحو ذلك من الأغراض والمقاصد التربوية. وقد كان من صنع الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -  أن وفقه قبل نزول الوحي عليه لهذا النوع من العزلة، وحبب إليه الخلاء، فكان يخلو في غار حراء، فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود بمثلها حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء.
هـ ـ البعد عن الدخول في الخصوصيات:
كل الكائنات الحية تحتفظ لنفسها بمجال حيوي تعد اقتحامه نوعاً من العدوان عليها، ويأتي الإنسان على رأس القائمة. قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد من هذه الآية: هو السؤال عمَّا لا يعني من أحوال الناس؛ بحيث يؤدي ذلك إلى كشف عوراتهم، والاطلاع على مساوئهم.
ولعل مع المعايشة قد يغفل المربي عن هذا الضابط، فيُسَوِّغُ لنفسه السؤال عما لا يعني، والاطلاع على ما يخص من يربيهم دون إذنهم، وكل هذه الأمور محرمة شرعاً، وجرأة بعض المربين على تجاوزها داخل في عموم قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَـحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: 12].
و ـ ألا يهمل الوَرَعَ الشرعي الواجب:
ومن ذلك ما يتعلق بصحبة ومعايشة الأمرد؛ فقد يخلُّ المربي بالوَرَع الشرعي في ذلك فيخلو به، أو يســافر معـــه وحــده، أو يبيت معه، أو غير ذلك بمسوغ المعايشة، وهي أمور قد ينشأ عنها نتائج غيــر محمـودة؛ لــذا شدد السلف الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ في صحبة الأمرد، والآثار في ذلك كثيرة ومنها:
1 ـ ما رواه البيهقي في الشُّعَب عن بعض التابعين قال: «كانوا يكرهون أن يحد الرجل النظر إلى الغلام الجميل».
2 ـ روى أيضاً عن بعض التابعين: «ما أنا بأخوف على الشاب الناسك من سبع ضارٍ من الغلام الأمرد يقعد إليه».
3 ـ روي عن الحسن بن ذكوان أنه قال: «لا تجالسوا أولاد الأغنياء؛ فإن لهم صوراً كصور النساء، وهم أشد فتنة من العذارى».
«قد غدت اليوم صحبة المربين لهؤلاء الأحداث ضرورة ملحَّة، ولا يسوغ أن يُهمَلوا، أو ينهى المربون عن صحبتهم بحجة الورع؛ ذلك أن واقع السلف كان يختلف عن واقعنا، فلم يكن البديل عندهم هو الشارع غير المنضبط أو التجمعات الساقطة مما نشهده اليوم، بل كانت البيوت ومؤسسات المجتمع التربوية تتكفل بتربية هؤلاء والعناية بهم، أما الآن فالبديل لصحبة المربين لهؤلاء هو أن يصحبهم شياطين الإنس المفسدين، والواقع شاهد بأن كثيراً من هؤلاء حين ابتعدوا عن الميادين الصالحة انزلقوا في طرق الفساد.
ومع القول بالحاجة لصحبة المربين للأحداث تبقى هذه النصوص عن السلف لها قيمتها واحترامها، فعلى المربي أن يراعي ضوابط مهمة في ذلك منها: عدم الخلوة، أو السفر مع الأمرد لوحده، ومراعاة المبيت وما يتعلق به»(6).
و ـ ألا تؤدي إلى إشغال المتربي معظم وقته، فلا بد من ترك قدر من وقت الفراغ يُعَوِّدُه فيه على استغلال الوقت في تربية ذاته، ويتيح له فرصة الاعتناء بدراسته، وارتباطاته الاجتماعية.
ز ـ التقليل من اللقاءات الفردية في غير البرامج العامة؛ بحجة معايشة المتربي والقرب منه أكثر؛ فكثير منها يتحول إلى علاقة شخصية بحتة تفقد أثرها التربوي.
ح ـ الاقتصاد في المزاح والهزل، وعدم الخروج فيه عن حد الوقار والهيبة.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال