تطور علم الجغرافيا: من الوصف الموسوعي إلى التخصص والتطبيق
شهد علم الجغرافيا تحولاً جذرياً في منهجيته ومجالاته خلال المائة سنة الأخيرة، متنقلاً من مجرد جمع المعلومات ووصف الظواهر إلى التعمق في التخصص، وتطبيق المعرفة لخدمة التخطيط والتنمية. يمكن تقسيم هذه المراحل التطورية إلى اتجاهات رئيسية متتالية ومتداخلة:
1. المرحلة القديمة (الاتجاه الموسوعي): مرحلة الجمع والوصف الأولي
تُعد هذه المرحلة هي الأساس الذي بُني عليه العلم، حيث تمحور الاهتمام حول الجمع الموسوعي للمعلومات والحقائق والملاحظات التي سجلها الرحالة والمكتشفون عن الظواهر الطبيعية والبشرية في البيئة.
- الطابع الوصفي والسردي: كان السمة الغالبة على الجغرافيا القديمة هي الصيغة الوصفية والسردية، وذلك لسببين رئيسيين: أولهما ضرورة اتباع الاتجاه الموسوعي لضم كل ما يتعلق بالعالم، وثانيهما أن العالم كان في طور الاكتشاف لارجائه الشاسعة، مما جعل اهتمام الجغرافي ينصب على الإلمام بكل ما هو جديد.
- علاقة الإنسان بالبيئة (الحتمية البيئية): ركز المنهج في هذه الفترة على إبراز العلاقة بين الإنسان والبيئة، ولكن في اتجاه واحد؛ أي أن البيئة هي المُحدد لسلوك الإنسان الاقتصادي والاجتماعي (ما يُعرف بالـحتمية البيئية). لم يبدأ الإيمان بتبادل التأثير إلا في أواخر القرن التاسع عشر، وظل تأثير الإنسان ضئيلاً ومحدوداً في البداية.
- المنتج الفكري: تميز هذا المنتج بكونه وصفياً، سردياً، ومُطوّلاً في شرح الظواهر، وغالباً ما كان يفتقر إلى المنطقية والعلمية، بل وقد تداخله أحياناً الخرافات والأساطير، مما جعل هذه الشروحات قابلة للجدل وغير حاسمة.
2. الاتجاه التعليمي: الجغرافيا كجسر بين العلوم
شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين دخول الجغرافيا بقوة إلى ميدان التعليم، واعتُبرت همزة وصل أساسية بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية.
- تأسيس موقعها في المناهج: بدأت الجغرافيا كمادة تعليمية في المدارس الابتدائية ومعاهد إعداد المعلمين بإنجلترا في النصف الثاني من القرن الـ19، وتأخر دخولها للمناهج الثانوية حتى مطلع القرن الـ20. وكانت دول مثل فرنسا وألمانيا أكثر سبقاً في إدخال الجغرافيا كمادة تخصص.
- جهود كبار الجغرافيين: كُرست جهود العديد من كبار الجغرافيين لتشجيع تدريس الجغرافيا من خلال تأليف الكتب المدرسية والمحاضرات العامة لنشر الوعي الجغرافي.
- التطوير المنهجي في التعليم: تميز هذا الاتجاه بملاحظتين هامتين:
- الخروج من الفصل: التقدم الملموس في تنظيم زيارات الطلاب إلى المناطق المدروسة، وتطورها لاحقاً إلى دراسات ميدانية أسهمت بشكل كبير في تقدم علم الجغرافيا بصفة عامة.
- جغرافية البيئة المحلية: الاهتمام بتدريس جغرافية البيئة المحلية وجغرافية القطر الذي ينتمي إليه الطلاب، لربطهم ببيئتهم المباشرة.
3. الاتجاه الاستعماري: خدمة التوسع والسيطرة
برز هذا الاتجاه منذ سبعينيات القرن التاسع عشر واستمر طويلاً، حيث خرج الجغرافيون الأوروبيون، خاصةً من الدول الاستعمارية، من القارة الأوروبية إلى آسيا وأفريقيا.
- خدمة المد الاستعماري: كان الهدف الأساسي هو خدمة الاستعمار وحكم المستعمرات، من خلال تقديم الدراسات والمسوحات الجغرافية اللازمة لاستكشاف واستغلال الموارد وتخطيط السيطرة.
- الجامعات والكليات التابعة: تبع هذا الاتجاه نشأة كليات جامعية في المستعمرات تابعة للجامعات الأوروبية، والتي تطورت لاحقاً إلى جامعات أفريقية مستقلة أخذت على عاتقها القيام بالدراسات الجغرافية المحلية.
- تباين الحالة الأمريكية: اختلف الوضع في أمريكا، حيث تركزت دراسات الجغرافيين الأمريكيين على بلادهم، لارتباطهم بعملية تعمير الأرض الجديدة داخلياً، ولأنهم لم يدخلوا ميدان الاستعمار في أفريقيا كما فعلت الدول الأوروبية.
4. الاتجاه نحو التعميم (الجغرافيا الشمولية): البحث عن القوانين العامة
ظهر هذا الاتجاه في السنوات الأولى من القرن العشرين، رغم اهتمام سابق بالتوزيعات العالمية، وركز على إيجاد الأنماط والنظريات الكبرى.
- التوزيعات العالمية: اهتم الجغرافيون بدراسة التوزيعات العالمية لظاهرات جغرافية محددة، مثل أنماط المناخ والنبات.
- الرواد والنظريات الكبرى: يُعد الجغرافيون مثل هربرتسن (Herbertson) بنظريته عن الأقاليم الطبيعية، وماكندر (Machinder) بنظريته عن قلب اليابس في الجغرافيا السياسية، من أبرز رواد هذا الاتجاه الذي سعى إلى صياغة قوانين وأطر نظرية شاملة.
5. الاتجاه السياسي: الجغرافيا في خدمة صناعة القرار
ازداد الاهتمام بهذا الاتجاه بشكل كبير في أعقاب الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، التي أدت إلى إعادة تخطيط الخريطة السياسية لأوروبا.
- دور الجغرافيين في إعادة التخطيط: كان للجغرافيين دوراً هاماً في إبداء الرأي حول الحدود السياسية الجديدة، وتقييم قيمتها الاستراتيجية ومدى توافقها مع الظواهر الجغرافية، بالإضافة إلى تقييم مقومات وإمكانات الوحدات السياسية الناشئة.
- ازدهار الجغرافيا السياسية: نتيجة لذلك، زاد الاهتمام بشكل ملحوظ بفرع الجغرافيا السياسية في تلك الفترة.
6. مرحلة الاتجاه نحو التخصص: التعمق والمنهجية العلمية
بدأ هذا التحول الجوهري في التبلور بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) وما زال سائداً حتى الآن.
- تراكم المعرفة وضخامتها: بعد اكتمال اكتشاف قارات العالم وتراكم كم هائل من المعرفة، أصبح من المستحيل على الجغرافي الواحد استيعاب كل هذا الكم، خاصة مع التطور الهائل في أساليب البحث بالعلوم الأخرى.
- التأثر بالعلوم البحتة: أدى ظهور علوم بحتة متخصصة (مثل الجيولوجيا، علم التربة، الاقتصاد، علم الاجتماع) واعتمادها على الأسلوب التجريبي إلى تعميق المعرفة العلمية حول الظواهر الطبيعية والإنسانية، مما أثر بشكل مباشر على الجغرافيا التي تدرس نفس الظواهر في البيئة.
التخصص داخل الجغرافيا: تبعاً لذلك، انقسمت الجغرافيا إلى فروع متخصصة (طبيعية وبشرية) تحاكي وتساير التخصص في العلوم البحتة، ومن أبرزها:
- الفروع الطبيعية: جغرافية المناخ، جغرافية أشكال سطح الأرض، الجغرافيا الحيوية.
- الفروع البشرية: الجغرافيا الاقتصادية (الزراعة، الصناعة، النقل)، الجغرافيا الاجتماعية (السكان، المدن، الريف)، والجغرافيا السياسية.
- مبدأ السببية والتجريب: كان التخصص والتفرع المتزايد، واتباع مبدأ السببية (Causality) في تفسير الظواهر، والتجريب المعملي عوامل أساسية أثرت المعرفة الجغرافية، وجعلت النتائج أكثر دقة وحسماً، لا تسمح بالتأويل أو الجدل.
- تغير العلاقة بين الإنسان والبيئة: تغيرت نظرة العلاقة المتبادلة بين الإنسان والبيئة، وأصبحت لصالح الإنسان في نهاية المطاف، مع تعاظم تأثيره في البيئة.
7. الاتجاه التطبيقي: الجغرافيا في خدمة التخطيط والتنمية
يُعد هذا الاتجاه من أحدث ما استقر عليه علم الجغرافيا، وظهر أساساً من خلال بحث الجغرافيين عن هدف نفعي وتطبيقي لعلمهم.
الارتباط بمبدأ التخطيط: ارتبط هذا الاتجاه بظهور مبدأ التخطيط (الذي نشأ أولاً في الاتحاد السوفيتي سابقاً ثم انتشر)، واستطاع الجغرافيون إثبات جدارتهم في:
- تخطيط المدن والأرياف (Town and Country Planning): من خلال دراسات متعمقة قدمتها فروع جغرافية المدن وجغرافية الريف.
- التخطيط الإقليمي: عن طريق ظهور فكرة الإقليمية (Regionalism) والمسح الجغرافي للأقاليم، مما مكنهم من الإسهام الجدي في التخطيط على المستوى الإقليمي.
- استخدام الأرض (Land Use): تُعتبر دراسات استخدام الأرض من أهم الدراسات التي لفتت الأنظار إلى أهمية الجغرافيا في التخطيط بصفة عامة. ويُعد الجغرافي البريطاني ديدلي ستامب (Dudly Stamp) من الرواد في هذا المجال، حيث أشرف على مسح بريطانيا من حيث استغلال الأراضي في الثلاثينيات.
بهذا الترتيب، نرى كيف تطور علم الجغرافيا ليصبح علماً متقدماً، متخصصاً، وله بصمة واضحة في خدمة المجتمعات من خلال تطبيقاته العملية في التخطيط.
