جدلية وظيفة المدرسة بين تلقين المعارف وتطوير الكفايات: تحليل معمق للصراع التربوي القديم المتجدد وأثر تضارب الأدوار على المنهج التعليمي

جدلية وظيفة المدرسة بين المعارف والكفايات:

يُعدّ التساؤل حول ما إذا كانت وظيفة المدرسة الأساسية هي تلقين المعارف أم تطوير الكفايات من الأسئلة الجوهرية التي تخفي خلفها خلافًا كبيرًا ومعضلة تربوية حقيقية. لا يمثل هذا التساؤل مجرد اختيار بين منهجين، بل ينم عن صراع فلسفي وتربوي قديم متجدد حول جوهر العملية التعليمية ومُخرجاتها المأمولة.


1. الخلاف المركزي: تضارب الأدوار والاعتقادات

ينبع الخلاف الأساسي من افتراض شائع مفاده أن تطوير الكفايات (القدرة على توظيف المعارف والمهارات لحل مشكلات أو أداء مهام) يتطلب حتمًا الانصراف عن نقل المعارف الغزيرة والمفصلة. أي أن هناك اعتقادًا بوجود تزاحم بين الدورين، وأن أحدهما لا يمكن أن يزدهر إلا على حساب الآخر.

أ. ضرورة المعارف في الأنشطة الإنسانية:

على الرغم من هذا التباين المفترض، يوضح النص أن جل الأنشطة الإنسانية، بغض النظر عن بساطتها أو تعقيدها، تستلزم المعارف. هذه المعارف قد تكون:

  • موجزة ونابعة من التجربة الشخصية والحس المشترك.
  • ثقافة متداولة بين مجموعة من الممارسين أو في مجتمع ما.
  • مفصلة ودقيقة ومنظمة ناتجة عن البحث العلمي والتكنولوجي.

ب. تزايد الحاجة إلى المعارف المفصلة:

كلما أصبحت الأعمال والمهام المأمولة أكثر تطورًا، واعتمدت بشكل أكبر على وسائل الإعلام الحديثة، وتأسست على نماذج نسقية (أنظمة معقدة)، زادت حاجتها إلى المعارف المفصلة والدقيقة والمنظمة. فالكفاية العالية في سياق معقد لا يمكن أن تُبنى على جهل أو معرفة سطحية.


2. المأزق المدرسي بين التنظير والتطبيق:

تجد المدرسة نفسها في مأزق حقيقي عند محاولة التوفيق بين هذين الدورين المتنافسين على الزمن المتاح للتعلم.

  • بناء الكفايات عملية تستغرق وقتًا طويلاً؛ إذ تتطلب أنشطة تطبيقية، ومشاريع، وتوظيفًا مكثفًا للمعرفة في سياقات مختلفة لاكتساب المرونة والمهارة.
  • هذا الوقت المخصص لبناء الكفايات سوف يزاحم المدة المخصصة لـ نقل المعارف المفصلة، خاصةً مع التوسع الهائل في حجم المعارف البشرية.

هذا التنافس على الزمن هو ما يُحيي نقاشًا قديمًا قدم المدرسة ذاتها، حول: هل الأفضل هو تنظيم العقول (تكوينها) أم شحنها (ملؤها بالمعلومات)؟


3. الرؤى المتباينة لوظيفة المدرسة: بين حشد المعارف وتكوين الكفايات

لطالما تلمست المدرسة طريقها بين رؤيتين فلسفيتين متباينتين فيما يتعلق بوظيفتها الأساسية. يمثل هذا التباين جوهر النقاش حول كيفية تخصيص الوقت والجهد التعليمي.

أ. الرؤية الأولى: الأولوية لنقل المعارف الغزيرة

تركز الرؤية الأولى بشكل أساسي على نقل معارف عديدة وغزيرة، معتبرة أن الوظيفة الجوهرية للمؤسسة التعليمية هي تزويد المتعلم بالكم المعرفي والثقافة الشاملة. في ظل هذه الرؤية، يتم دون الاكتراث بتحريك هذه المعارف وتطبيقها ضمن السياق المدرسي. يتم إيكال مهمة تحويل هذه المعارف إلى أداء فعال وبناء الكفايات إلى جهات أخرى، غالبًا ما تكون: التكوين المهني أو الحياة العملية نفسها، سواء كان ذلك بشكل صريح أو ضمني. ترى هذه الرؤية أن المدرسة هي مستودع للمعلومات، ويتم اختبار كيفية استخدام هذه المعلومات في ميادين أخرى لاحقًا.

ب. الرؤية الثانية: الأولوية لتحريك المعارف وبناء الكفايات

على النقيض تمامًا، تقوم الرؤية الثانية على مبدأ التقليل من حجم المعارف المدرسية المفروضة وتخفيف الحمولة المعرفية. الهدف من هذا الانتقاء المعرفي هو توفير وقت كافٍ وجهد تعليمي مكثف لـ تحريك هذه المعارف المحدودة. يُصبح التركيز على الاستثمار في تحريك المعارف بكيفية مكثفة داخل الإطار المدرسي ذاته، لضمان اكتساب المتعلم للكفايات اللازمة. ترى هذه الرؤية أن القيمة الحقيقية للتعلم تكمن في القدرة على توظيف المعرفة، وليس فقط في حشدها، وبالتالي يجب أن تتولى المدرسة مسؤولية بناء هذه الكفايات بشكل مباشر ومكثف.


4. الإشكالية المتجددة: صراع الفلسفات التعليمية

إن إثارة الإشكالية الحالية للكفايات ليست سوى إعادة طرح، بلغة معاصرة وبمصطلحات تربوية حديثة، لنقاش تاريخي قديم يدور بين:

  • المدافعين عن التعليم المجاني (أو التعليم العام/التأسيسي): الذين غالبًا ما يركزون على قيمة المعرفة لذاتها (الثقافة العامة) وعلى بناء العقل وتنظيمه.
  • أنصار النفعية (من اليسار واليمين): الذين يرون أن التعليم يجب أن يكون له مردود عملي ومباشر، وأن وظيفة المدرسة هي تزويد المتعلم بالكفايات اللازمة لسوق العمل والحياة الاقتصادية (الرؤية النفعية).

في الختام، يُشير ليب بيرنو إلى أن التحدي المعاصر يكمن في كيفية بناء الكفايات انطلاقاً من المدرسة، دون أن يعني ذلك التخلي عن القيمة الجوهرية للمعرفة المفصلة، بل عبر إيجاد آليات تسمح بتوظيف المعرفة الغنية وتحويلها إلى أداء فعال ومرن.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال