أسباب غلاء الأدوية بالمغرب وتوصيات من أجل خفض أثمنتها:
تُعدّ الأدوية مكونًا أساسيًا من مكونات أي نظام صحي فعّال، وإتاحتها بأسعار معقولة تُعدّ حقًا من حقوق المواطن الأساسية. في المغرب، لطالما كانت قضية ارتفاع أسعار الأدوية محل جدل وقلق، حيث تُلقي بظلالها على قدرة المواطنين، خاصة من الطبقات المتوسطة والمعوزة، على الحصول على الرعاية الصحية اللازمة. وقد كشف تقرير برلماني شامل عن الأسباب العميقة لهذا الغلاء وقدم توصيات جريئة وفعّالة لخفضها. هذا الموضوع سيتناول بالتحليل الأسباب الرئيسية لارتفاع أسعار الأدوية في المغرب، ويسلط الضوء على التوصيات المقترحة من أجل تحقيق هدف توفير الدواء للمريض المغربي بأسعار في متناوله.
أولًا: أسباب غلاء الأدوية في المغرب
تتعدد الأسباب التي تقف وراء ارتفاع أسعار الأدوية في المغرب، ويمكن تقسيمها إلى عوامل مؤسساتية وتنظيمية، وأخرى تتعلق بطبيعة السوق والممارسات التجارية.
1. الإطار التنظيمي والقانوني المتجاوز:
يُعتبر هذا السبب هو الأهم والأكثر جوهرية. أشار التقرير البرلماني إلى أن النصوص التنظيمية التي تحكم تسعير الأدوية في المغرب أصبحت متجاوزة وبها ثغرات كبيرة. هذه الثغرات تُستغل من قبل شركات الأدوية للحصول على أسعار مرتفعة، مما يحول دون إمكانية السلطات العمومية من الدفع بأسعار الأدوية نحو الانخفاض. لم تُحدث وزارة الصحة، إلا مؤخرًا، تعديلات على هذه النصوص لجعلها أكثر حماية لمصلحة المريض.
2. ضعف القدرة التفاوضية للدولة:
على الرغم من أن الدولة هي أكبر مشترٍ مباشر وغير مباشر للأدوية (من خلال المستشفيات وأنظمة التأمين الصحي)، فإنها لم تستغل هذه القدرة التفاوضية بشكل فعال لفرض أسعار أقل. يُعتبر هذا الفشل في المفاوضات مع الشركات الصيدلانية سببًا رئيسيًا في بقاء الأسعار مرتفعة، على الرغم من أن بعض الهيئات، مثل الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي (CNOPS)، قد أثبتت أن التفاوض يمكن أن يؤدي إلى تخفيضات كبيرة.
3. هيمنة الأدوية الأغلى على السوق:
يُظهر التقرير مفارقة غريبة في السوق المغربية، حيث أن الأدوية ذات العلامات التجارية الأغلى سعرًا هي الأكثر مبيعًا، على الرغم من وجود بدائل جنيسة أرخص. هذا السلوك يشير إلى تأثير كبير للحملات التسويقية للشركات على الأطباء والصيادلة، مما يدفعهم لوصف وبيع الأدوية الأغلى ثمنًا، مما يؤثر سلبًا على المريض.
4. تشتت الأسعار وفوضى التسعير:
يُلاحظ التقرير أن نفس الدواء، بنفس المكونات، قد يُباع بأسعار مختلفة بشكل صادم، سواء بين علامات تجارية مختلفة (بفوارق تصل إلى 600%) أو حتى حسب قناة التوزيع (صيدلية، مستشفى، أو صيدلية تابعة لهيئة تأمين)، حيث تصل الفوارق إلى 300%. هذا التشتت والفوضى في التسعير يدل على غياب رقابة فعّالة وضعف في الإطار التنظيمي.
5. العقلية الربحية للشركات الصيدلانية:
مثل أي كيان تجاري، تسعى شركات الأدوية إلى تحقيق أكبر قدر من الأرباح. لكن في قطاع حيوي كالصحة، يجب ألا تُعامل الأدوية كأي منتج صناعي آخر. فالأخلاقيات المهنية تقتضي أن يكون الحق في الحياة والحصول على العلاج مقدمًا على الربح المادي. وقد أكد التقرير أن المغرب اختار نظامًا إداريًا لتحديد الأسعار يهدف إلى حماية المريض، لكن هذا الهدف تم نسيانه بمرور السنين.
ثانيًا: التوصيات المقترحة لخفض أسعار الأدوية
قدم التقرير البرلماني مجموعة من التوصيات العملية التي تتطلب شجاعة سياسية لتطبيقها، بهدف إصلاح منظومة الأدوية وجعلها أكثر عدالة وكفاءة.
1. إصلاح الإطار المؤسساتي والقانوني:
- إنشاء هيئة لتسعير الأدوية: يجب أن يتجاوز تحديد أسعار الأدوية وزارة الصحة وحدها، وأن يُعهد به إلى هيئة جديدة تضم ممثلين عن مختلف الأطراف المعنية: هيئات التأمين الصحي، والهيئات المهنية للأطباء والصيادلة، ومجلس المنافسة. هذا التعدد يضمن اتخاذ قرارات أكثر توازنًا وعدالة.
- تعديل النصوص التنظيمية: يجب على هذه الهيئة الجديدة وضع مسطرة جديدة لتحديد أسعار الأدوية، تكون أكثر صرامة وحماية للمريض، وتتجاوز الثغرات التي كانت تستغلها الشركات.
2. تفعيل القدرة التفاوضية للدولة:
- استعمال نظام "الرخص الإجبارية": يُعدّ هذا التوصية من أبرز ما جاء في التقرير. يمكن للدولة أن تستعمل هذه الرخصة القانونية، التي تسمح بها منظمة التجارة العالمية، لتصنيع دواء معين أو استيراده بأسعار أقل، حتى لو كان خاضعًا لبراءة اختراع، وذلك في حال كان سعره الأصلي مرتفعًا جدًا وخارج متناول المرضى.
- التفاوض الموحد: يجب على الدولة، بصفتها أكبر مشترٍ، أن توحّد جهودها التفاوضية، بدلًا من ترك كل هيئة تأمين (مثل الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي) تتفاوض بشكل منفرد.
3. تعزيز الأدوية الجنيسة وتشجيعها:
- التوقف عن التعويض: يجب أن تتوقف أنظمة التأمين الصحي عن تعويض الأدوية المكلفة التي يوجد لها بديل جنيس أرخص. هذا الإجراء سيشجع الأطباء على وصف الأدوية الأقل سعرًا، ويخفف العبء المالي عن صناديق التأمين.
- توعية الأطباء والمرضى: من الضروري شن حملات توعية موجهة للأطباء والصيادلة والمواطنين بأهمية الأدوية الجنيسة وفعاليتها وجودتها، مما يساهم في تغيير العقلية السائدة بأن الأدوية الأغلى هي الأفضل.
خلاصة:
إن ارتفاع أسعار الأدوية في المغرب ليس مشكلة اقتصادية بحتة، بل هي قضية اجتماعية وإنسانية تمس حق المواطن في العلاج. إن تقرير اللجنة البرلمانية كان بمثابة خطوة أولى مهمة نحو كشف الأسباب الجذرية لهذه الأزمة ووضع خارطة طريق لإصلاح شامل. إن تطبيق التوصيات المقترحة، بدءًا من إصلاح الإطار المؤسساتي وصولًا إلى تفعيل القدرة التفاوضية للدولة، يمكن أن يخفّض من أسعار الأدوية بنسب كبيرة، ويضمن استدامة الأنظمة الصحية، وقبل كل شيء، يضمن حصول كل مواطن مغربي على العلاج الذي يحتاجه دون أن يثقل كاهله بالديون أو يضطر لبيع ممتلكاته.
التسميات
مغرب عربي