الأمة العربية من قمة المجد إلى هاوية الانحطاط.. القدرة على الاستمرار من خلال التجديد والتحديث والإبداع واستيعاب المتغيرات السياسية والاقتصادية والعسكرية

المقومات الأساسية لإدامة بقاء أي أمة حية وموحدة هي ديناميكية قدرتها على الاستمرار في حيويتها من خلال التجديد والتحديث والإبداع وفهمها واستيعابها للمتغيرات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تحصل في أجوائها الداخلية وفي محيطها الإقليمي الخارجي القريب والبعيد، وقابليتها على التأقلم في جميع الأجواء والظروف والوقائع الثابتة والمتغيرة والمساهمة فيها وبشكل إيجابي للحفاظ على مكتسباتها الآنية والمستقبلية، وكذلك تحديث وخلق وبناء إمكانيات سعتها الدفاعية للحفاظ على استمرارية وجودها وتأثيرها في محيطها الإقليمي والدولي العالمي. لذا فإن كل هذه المقومات تحتاج إلى متطلبات التخطيط الواعي والعقل العلمي الإبداعي السليم المسخر للوصول الى تحقيق مكتسبات النتائج المبتغاة لأن الأمم الضعيفة والمستهلكة لا تحترم ولا ترحم ولا يمكنها الاستمرار في البقاء دون هذه المقومات.
الأمة العربية المجيدة كانت تمتلك معظم المقومات الحضارية المذكورة أعلاه بعد تكملة الرسالة المحمدية رغم الخلافات الجزئية على من سيستلم الخلافة التي حصلت بعد وفات سيد الرسل محمد بن عبد الله (ص) حيث اتسعت الرقعة الجغرافية للحملة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين وقوى قوام الكيان العربي الإسلامي بعد إسقاط الإمبراطورية الفارسية. استمر هذا التطور من خلال قيام الدولة الأموية ومن ثم الدولة العباسية وامتداد الحضارة العربية الإسلامية المبدعة إلى الصين والأندلس قبل ضعفها وتشرذمها نتيجة التناحر والتآمر عليها من قبل الدخلاء والتي انتهت إلى تقسيمها وأخيرا تدميرها بعد الاحتلال المغولي لبغداد عام 1258 وسقوط دولة الأندلس بيد الإسبان عام 1492 بعد تقطيعها إلى إمارات متناحرة داخليا. الحضارة العربية الإسلامية التي كانت ممتدة من الأندلس غربا إلى أعماق الأراضي الهندية والصينية شرقا كانت حضارة إنسانية مبدعة متقدمة نتيجة التطورات الإبداعية للعقل العربي الإسلامي في جميع المجالات منها العمرانية والأدبية والعلمية والصناعية والزراعية والتجارية والنقل والاستكشافات البحرية والتي منها كان الإبداع في تقدم علوم البايولوجية والكيمياء والصيدلة والجراحات الطبية وعلاج الأمراض الخبيثة والسارية وناهيك عن الاختراعات في المجالات الصناعية....الخ. سبق هذه الحضارة العربية الإسلامية المبدعة قيام أول الحضارات الإنسانية في التاريخ البشري في أرضنا العربية وهي الحضارات السامية في بابل وأور وسومر وأشور وأكد وفي مصر العروبة الحضارة الفرعونية العظيمة.. الخ. سنت في هذه الحضارات القوانين (مسلة حامورابي، شريعة أورنامو، شريعة اشنونا، شريعة بيت عشتار) ودجن فيها الحيوان وحصدت فيها المحصولات الزراعية المختلفة وظهرت فيها الاختراعات المختلفة كاختراع العجلة والدولاب، والغزل، والهندسة المعمارية والبناء، وصناعة المشروبات والنبيذ، والتحنيط...الخ. حضارات قديمة أخرى كانت أيضا قائمة في العصور الغابرة كالحضارة الصينية والهندية والفارسية والرومانية والإغريقية وكانت أيضا من الحضارات المبدعة وكانت لها في ردحات من الزمن علاقات تجارية مع حضارات وادي الرافدين، ولكن في نفس الوقت كان هناك تناحر ونزاعات مستمرة عبر التاريخ بين الحضارة الفارسية والحضارات التي أقيمت في وادي الرافدين وباقي الأراضي العربية ولحد يومنا هذا حيث أن أخرها كانت وما تزال دولة ملالي ولاية الفقيه الخمينية في قم وطهران التي برزت بعد سقوط دولة الشاه محمد رضا بهلوي عام 1979 تعمل بجد وإخلاص على تقويض الدول العربية وبناء الإمبراطورية القومية الفارسية على حساب العرب مستغلة الدين الإسلامي الحنيف والدجل الوثني الذي أدخلته على ديننا السميح من خلال تمرير أجندتها السياسية الصفوية عن طريق عملائها وبوجود الجهلة المتقبلين لهذه الأجندات من الأميين والمتعلمين من أبناء أمة العرب الذين فقدوا توازنهم وبوصلة انتمائهم القومي نتيجة ضعف وتمزق هذه الأمة.
في عصرنا الحديث وباختصار تحررت الأرض العربية - ما عدا أراضينا العربية في غرب الشمال الأفريقي التي كانت قابعة تحت الاحتلال الفرنسي والإيطالي والإسباني - من هيمنة الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى لكنها في نفس الوقت وقعت تحت مخالب الاستعمار الغربي الذي مزقها إربا إربا حسب اتفاقية "سايكس-بيكو" عام 1915-1916 إلى دويلات ذات حدود مصطنعة وشعب ممزق خاضع للسيطرة الأجنبية بصورة مباشرة وغير مباشرة بواسطة تنصيب حكام عملاء من قبل المستعمر الأجنبي لا قدرة لهم غير تطبيق أوامر وأجندات أسيادهم المستعمرين الجدد. بعض الدول العربية بدأت تحصل على استقلالها الشكلي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ومنها التي حصلت على الاستقلال التام نتيجة ثورات تحررية من التبعية الاستعمارية قام بها ضباط أحرار في جيوشها مثل ثورة 23 يوليو/ تموز 1952 في مصر وثورة 14 تموز علم 1958 في العراق وفي اليمن في 26 سبتمبر عام 1962 وليبيا في 1/9/1969. قسم من الأقطار العربية حصلت على استقلالها بعد نهاية الانتداب الاستعماري والقسم الأخر بقيت كمحميات خاضعة تحت السيطرة الاستعمارية البريطانية خصوصا محميات الخليج العربي التي وقعت بعد جلاء الاستعمار البريطاني المباشر تحت هيمنة الإمبريالية الأمريكية. أرض الأحواز العربية خضعت للسيطرة الفارسية الإيرانية عام 1925، والأرض الفلسطينية المغتصبة قسمت وأعطيت للمهاجرين اليهود الصهاينة في سبيل قيام الكيان الصهيوني المسخ وحسب وعد بلفور المشئوم عام 1917 الذي أدى إلى تشريد الشعب العربي الفلسطيني من دياره عام 1948 بعد قيام تلك الدولة المسخة. الأخطبوط الصهيوني سيطر على جميع الأراضي الفلسطينية، شبه جزيرة سيناء المصرية وقسم من الأراضي اللبنانية ومرتفعات الجولان السورية بعد هزيمة العرب في حرب 5 حزيران عام 1967 ولكنه أنسحب من شبه جزيرة سيناء بعد سنين من توقيع "اتفاقية كامب ديفيد" في 17 سبتمبر عام 1978 بين الخائن أنور السادات والإرهابي الصهيوني مناحيم بيغن.
كان هناك أمل لجمع شمل الأمة العربية في العقد السادس من القرن الماضي خصوصا بعد وصول التيارات القومية إلى دفة الحكم في بعض الأقطار العربية مثل العراق وسورية إلا أن هذا الأمل ضاع وتبدد بعد فشل إقامة دولة الوحدة بين مصر والعراق وسوريا في أواسط العقد السادس من القرن الماضي لأسباب كثيرة، وفشل قيام الوحدة الاندماجية بين مصر وليبيا بعد ثورة الفاتح من سبتمبر. نفس الفشل حصل في أواخر العقد السابع من القرن الماضي حينما كانت هناك محاولة لقيام الوحدة بين العراق وسوريا وتوحيد حزب البعث العربي الاشتراكي في كلا القطرين العربيين. الأرض العربية مازالت ممزقة بسبب الخلافات بين حكامها ونوعية الحكم في كل قطر عربي هذا إضافة إلى التآمر الداخلي والخارجي على مستقبل الأمة العربية. الشعب العربي مقسم الآن إلى حلل وملل وطوائف ضائعة في وديان المتاهات السياسية والفكرية والدينية والأخلاقية. الأمة العربية تعاني الآن من مرض عضال اسمه "التفرقة وفقدان الولاء والإحساس" أوهن كيانها برمته والذي جعلنا نطرح الأسئلة التالية:
هل تمتلك الأمة العربية المتمثلة بدولها المشتتة في وقتنا الحاضر مقومات إمكانية بقائها كأمة حية ويمكن أن تساهم بشكل إيجابي في تطور الحضارة الإنسانية؟!!!
أم أنها أصبحت أمة مستهلكة ومعرضة مستقبلا للزوال والانقراض؟!!!
الجواب الآني على السؤال الأول وحسب وجهة نظرتنا للواقع المعاصر للأمة العربية هو كلا ونعم.
الجواب كلا.. لأنها وبسبب تفاعل أبنائها (حكامها المارقين) السلبي المفعم بالأنانية والازدواجية وانفصام الشخصية المدقع مع محيطها الداخلي والإقليمي الخارجي أصبحت أمة ضعيفة ومستهلكة، تعاني من مرض تمزقها وتشرذمها الداخلي المزمن في كل النواحي الأخلاقية والحضارية وحتى الدينية منها. كذلك أصبحت ظاهرة انعدام فهم أبنائه لتعاريف الحقوق والواجبات الوطنية والإخلاص والولاء القومي لها ولأرضها المعطاء والاستهزاء بقيمها من الظواهر البارزة في عصرنا الحديث، حيث أن ظاهرة التجسس وبيع الولاء للقوى الخارجية المعادية المتربصة لبقائها برزت كميزة شبه عادية يتشدق بها القائمين بها وعليها دون خجل أو وجل من العقاب الشعبي الصارم.
الجواب نعم.. لأنها تمتلك تلك المقومات وذلك لأنها أمة غنية لديها طاقات بشرية هائلة وخيرات عظيمة إن استغلت بشكل صحيح ستوفر لها الأجواء الملائمة لتطورها وتقويمها وتقويتها ومساهمتها في دفع الحضارة الإنسانية إلى أمام كما هي الحالة في صعود جيرانها الصين والهند كقوتين عظميين اقتصاديا وعلميا وعسكريا وصناعيا في أسيا. لكن هل يتحقق ذلك وكيف؟!!!
أما جوابنا على السؤال الثاني وبناءاَ على ما ذكر في جواب الشطر السلبي من السؤال الأول سيكون نعم لأن تشرذمها الداخلي المزمن وتقسيمها إلى بقع جغرافية مازال مستمرا في نخر عظام هيكلها المعقد، وأن ضعفها أمام القوى الخارجية أوهن قواها وتبدوا وكأنها معرضة للانقراض إن لم يصحى أبناءها المارقين من غفوتهم الأزلية لاستحداث متطلبات بقائها كأمة حية لها شأن في الحضارة الإنسانية.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال