في عالمنا العربي المبتلى على ما يبدو بأنظمة فاسدة، من المحيط إلى المحيط، إلا ما رحم ربي، القيام بانقلاب عسكري قد يكون دمويا، أمر مشروع لا اعتراض عليه، بل قد تصبح على أثر الدماء التي سالت والأرواح التي أزهقت ظلما، بطلا ورمزا من رموز الأمة، يسجل اسمك بماء من ذهب، وألسنة المسؤولين تلهج بذكرك مديحا. ممنوع اتهامك بالفاشية والدكتاتورية، حرام بإجماع علماء آخر الزمن وصفك بالإرهابي المجرم، وقطعا من المهلكات نعتك بالخائن والعميل للمصالح الأجنبية والمتواطئ معها على الشعب؛ أقول هذا مقدمة وقد جاءتني ردود متباينة حول مقال بعنوان 'جزائر الانتصار والانكسار' (09/07/10 'القدس العربي') ضمنته وجهة نظري حول نصف قرن من الحرية الصورية، أزعم أنها مؤسسة على واقع ووقائع، وطالبت في ختامه بالسعي للتغيير المدني السلمي والمتحضر للأوضاع، محملا النخب بمن فيها ذات الصلة بالمؤسسة العسكرية والأمنية مسؤولية واجب هذا النهج من التغيير. ولعل الواجب الأخلاقي يملي علي بالضرورة تقديم الشكر للجميع حتى أولئك الذين حملوا متبرعين من تلقاء أنفسهم أو فعلا بطلب من المصالح المعنية، رسالة واضحة مفادها صدور أوامر قاطعة بضرورة توقيف هذا الفلاح بأسلوب لا يلفت الانتباه ولا يثير جدلا. أقول هنا وباختصار حتى لا توظف 'القدس العربي' في شأن ذاتي: لو كنت أعلم أن صالح هذا الشعب معلق بروحي - يعلم الله - لتقدمت بها من تلقاء نفسي عن طيب خاطر، ولن أكلف أحدا، لكن الواقع هو أن الجزائر أكبر من السلطة ومن رئيس الجمهورية ذاته، إنها الجزائر، أعز أركان هذه الأمة، وأهم ركائزها، وأغلى أياديها الضاربة، لا يمكن بحال اختزال تطورها وسلامتها ومنعتها في رئيس أو سلطة، فضلا عن فلاح من مكانتي المتواضعة. ما أطالب به وأكرره ضرورة تغيير السياسات وإن اقتضت الحال تغيير الرجال. لكن تعالوا نراجع التاريخ وهذا المنطق بهدوء وموضوعية.
التاريخ الحديث للجزائر المستقلة - وحال الدول العربية لا يختلف عنها كثيرا- تفيض صفحاته بالانقلابات، لا يخلو منها عقد تقريبا على امتداد نصف قرن من هذه الحرية الصورية، وبالعودة إلى الوقائع نجد التالي:
أول انقلاب حدث عام 62 قام به العقيد الهواري بومدين على الحكومة المؤقتة، لينصب أحمد بن بلة رئيسا للجمهورية، ويشار إلى عمله هذا بالبطولي والمشروع. وفي المقابل يتهم أركان الثورة وقادتها أمثال حسين آيت أحمد ورئيس الحكومة نفسه يوسف بن خده ومحمد بوضياف (الرئيس المغتال 92) وغيرهم من أعضاء الحكومة المؤقتة بأقبح النعوت.
يليه انقلاب الهواري بومدين نفسه على الرئيس أحمد بن بلة عام 65، ويصبح رئيسا للجمهورية، ويوصف بالمصحح والمنقذ وما إلى ذلك، ويعتمد يوم الانقلاب عيدا وطنيا رسميا، ويسجن الرئيس المخلوع الذي كان بالأمس القريب بطلا ورمزا، أصبح سجينا متآمرا على مبادئ الثورة، ليضم بهذا الوصف لمعظم قادتها؛ ولم تنقض فترة حكم الرئيس قائد الانقلاب إلا وقد قُتل كثير من القيادات والرموز السياسية، وفر بعضهم إلى الخارج بمن فيهم شاعر الثورة، مبدع إلياذة الجزائر والنشيد الوطني مفدى زكريا، وتكال في المقابل للسيد الرئيس صفات المجد والشهامة والعزة وغيرها.
عام 92 جاء الانقلاب الثالث على الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد، ليوصف بأنه أغرق البلد في الفساد والفوضى، ويحمل مسؤولية تقويض أركان الدولة الحديثة، إضافة عن اتهامه بالجهل والتخلف وما إلى ذلك، وأما الانقلابيون فقد برروا جرمهم هذا بانقاذ الدولة من الانهيار ومستقبل الشعب من الضياع، وجاؤوا بمحمد بوضياف رئيسا، ويسقطون عنه كل التهم التي كيلت له من قبل، ويعود رمزا وفخرا للبلد.
بعد ستة أشهر فقط من نفس العام، اغتيل الرئيس بوضياف، ولم تكن الفترة الزمنية كافية لمحو آثار الحملة الإعلامية التي كانت تمجده، ويشير أهل الفقيد بأصابع الاتهام لمن جاء به، ليحسب الحدث كذلك انقلابا دمويا.
ثم جيء بالجنرال اليمين زروال رئيسا عام 95، بصفته كذلك المنقذ والقادر على بناء الدولة الجزائرية الحديثة، ووصفه بالرجل النظيف اليد، ولكن لم يتأتى له التحكم بزمام الأمر، فأقيل بشكل غير لافت غطته انتخابات رئاسية مسبقة، وقذف به إلى التجاهل والنسيان. واستقدم في المقابل الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة، وبعد أن كان متهما بالسرقة وتحويل المال العام والرجل الثاني في نظام الهواري بومدين، المتصف بالدكتاتورية والشوفينية، سقط كل ذلك واستبدل بالرجل العصامي وبالغ الذكاء وصانع أقوى المواقف وغيرها من الصفات، لعل أبرزها ذلك العنوان العريض 'الرجل الذي يمكنه أن يعيد العزة والكرامة للشعب والدولة الجزائرية على حد سواء'.
هذا باختصار حول الانقلابات على مستوى رئاسة الدولة، أما على مستوى قيادات الأحزاب فحدث ولا حرج، لعل أولها الانقلاب العلمي كما يصفه منظروه، الذي طال الأمين العام لحزب جبهة التحرير عبد الحميد مهري، لا لشيء إلا لأنه عارض الانقلابيين، فكيلت له كذلك أقبح النعوت، وهو من هو مكانة ثورية وفكرية وسياسية.
صحيح أن هناك زاوية وإن كانت ضيقة ومتواضعة تعد ايجابية، تتمثل في دخول النظام الجزائري كتاب غينيس ليس من حيث عدد الانقلابات قياسا بالدول العربية فحسب، ولكن وهو الأهم في بقاء معظم الرؤساء السابقين أحياء، أحمد بن بلة الشاذلي بن جديد علي كافي اليمين زروال؛ وهذه ظاهرة فريدة في عالمنا العربي تعد امتيازا من دون جدال، حتى وإن كانوا يعانون البطالة والتهميش واللامبالاة، ولولا ثقافتي المتواضعة لتجرأت على القول بأننا تجاوزنا في هذا الشأن كل دول العالم، فما أذكره من رؤساء أحياء للولايات المتحدة، ثلاثة على ما أعتقد، واثنين مثلا بفرنسا.
أخيرا،هذا الفلاح مواطن جزائري يكفل له الدستور حق التعبير عن الرأي، اذن من حقي أن أطالب بالتغيير؛ والمعادلة هنا من أجل تحقيق هذا الهدف المشروع، تضع علية القوم أمام أحد الأمرين، إما أن يواصلوا صم آذانهم عن هذا النداء لدفع المواطن جبرا لنهج طريقتهم من أجل التغيير وهو الانقلاب، ويحق له إن نجح أن يصف نفسه بما يصفون أنفسهم من وطنية وتصحيح ثوري وبناء الدولة الحديثة، كما يحق له بعد خلعهم، سجنهم وكيل الاتهامات الخطيرة لهم؛ وهذا الفكر أرفضه شخصيا جملة وتفصيلا، ولسبب بسيط لأن الشعب يأكل منذ عقود شوكه؛ وإما فتح الآذان وسماع الطرف الآخر بصفته شريكا لا عبدا، ومواطنا حرا لا يقل إدراكا ومعرفة ووعيا عنهم حتى لا أدعي أكثر من ذلك، والبحث معا وبشكل حضاري متمدن عن أقصر الطرق وأنجعها، للانطلاق في تغيير سياسي سلمي يصب في مصلحة الجزائر والأمة، فحبال الدنيا قصيرة، ودوام الحال قطعا من المحال، ومن يتوهم غير ذلك ممسك بالسراب، ويقينا التغيير قادم وإن اقتضى الأمر شق البحر بعصا. ذلك أن اعتماد نظرية 'حلال لنا الانقلاب حرام عليكم الدعوة للتغيير'، للأبد أمر مستحيل، فهي ذاتها فاسدة وباطلة.
اسماعيل القاسمي الحسني
التسميات
عرب