تعلمنا نحن العرب في دروس الجغرافيا أن الأرض قبل أن تكون كروية بيضوية، فإنها ذات قداسة، كما تعلمنا في دروس التاريخ أن للوطن حرمة كحرمة الدين، أما الشعب فظننا به خيرا وقلنا إن له كرامة، وما أن وعينا الواقع أكثر حتى اكتشفنا ان ما تعلمناه على مقاعد المدارس مناقض ومناهض تماما لما تعلمناه في دروس ومقررات الحكومات العربية، فالأرض ليست مقدسة بالمعنى اليقيني، ولحرمات الأوطان تأويل مختلف حسب الظروف ومتطلبات مصالح الأنظمة والحكومات، أما الشعوب العربية، فحدث ولا حرج، فالكرامة نسبية، والحقوق يتواضع عليها أولو الأمر ليقرروا مقدارها ومستوياتها ومعانيها وشكل حروف كلماتها.
فالأرض حين تدنس بالاحتلال فإن من قداستها أن لا تريق فوقها الدم، وان الموت في سبيلها تهلكة، والاستشهاد على أسوارها انتحار، فكل ما في الأمر أن الاحتلال يبقى ما شاء الله له أن يبقى، ثم ما يلبث أن يزول، لأن من سنن الله على أرضه أن الأرض لله يرثها لمن يشاء من عباده، والقداسة اليقينية هي أن تسلم بقضاء الله وقدره، وأن يبقى الأمر معلقا بالمستقبل الذي تنبئنا به النصوص والمأثورات الدينية، وفي فلسطين يعلمنا حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود انتم شرقي النهر وهم غربيه) أن منازعة الواقع الحالي بكراهية الآخر والتحشيد ضده لا يسمن ولا يغني من جوع، لأنه لم يحن وقته، فمن ذا الذي يعترض على هذا المقدس الديني ويزعم بضرورة إخراج اليهود من أرض فلسطين بالقوة والجهاد..؟
فمن هذا الفهم، يأتي إصرارنا على إطالة أمد المفاوضات والذهاب معها لآخر أشواطها، فكلما كانت المفاوضات مؤجلة، كان ذلك أصدق ليقـــينياتنا المقدسة.
وفي العراق مثال آخر، حديث مرفوع للرسول صلى الله عليه وسلم أنه (لا تقوم الساعة حتى ينحسر الفرات عن جبل من ذهب)، وكم تردد هذا الحديث إبان حرب الخليج، ان هذا الذي يجري في العراق ما هو إلا مخاض من مخاضات بدء تحقق التأويل العملي له، ولسنا هنا نناقش صحة المتن وقوة السند للحديث، بل نقول بأن كل أهدافهم من مثل هذا التوجيه في تفسير الأحداث بالأحاديث التي تتناول النهايات، هو من أجل تخدير إحساس الناس عن مواجهة أزماتها وأوجاعها، وتأجيل لتحولات عواطفها واستدراجها لحالة من التفريغ لما هي مشحونة به من حرقة وألم وانكسار الروح، إنه أيضا في جانب موازي تجهيل ممنهج لوعي الشعوب فيما يتصل بثقافة المقاومة، إذ أن المقاومة العربية يجب أن تبقى مقاومة شفاهية، بالنصوص والمأثورات الدينية التي تحكي عن الخلاص والنهايات، وفي أبعد حدودها مقاومة شتائمية، وكل ذلك من أجل أن تبقى الشعوب قيد الانفعال، لا أن تتحول إلى الأفعال.
إنها الأنظمة والحكومات التي تستمد قوتها وبقاءها من بقاء جذوة الجهل مشتعلة في الشعوب، ففي عز أزماتنا الكبرى، وأوجاعنا المؤلمة، في العراق وفلسطين وغيرهما، اقتادتنا أنظمتنا عبر أبواقها ومنابرها إلى الحديث عن عصور النهايات الكبرى، وحولت اهتمامنا من النظر في واقع الحالات إلى النظر في المآلات، وجنحت بنا من التصدي للأزمات بالعمل إلى النظر فيه بالأمل، ومن منازعة الأزمات بالقوة العملية إلى منازعتها بالوجدانيات، لا سبيل أمامنا إلا الرثاء، تماما مثلما رثينا من قبل الأندلس.
إذ قال قائل رثائها أبو البقاء الرندي ( فجائع الدهر أنواع منوعة.. وللزمان مسرات وأحزان )، وتماما مثلما انشد فيصل محمد الحجي حديثا في رثاء بغداد قائلا ( فكأنما للرافدين روافد.. تجري دما متلاطما دفاقا)، نحن رثائيون بامتياز، في منتدياتنا ومؤتمرات قمتنا، ولينظر أحدنا إلى تحليلاتنا السياسية كم أصبحت أيضا رثائية بامتياز.
كم يلزمنا من موت كي تستفيق شعوبنا وتنتفض حية لتنازع من نازعها روحها، واغتصبها كرامتها، وسلبها حقوقها، كم هذه الشعوب تحتاج من قهر وفقر وجوع حتى تقف في وجه كمبرادوريات حكوماتها التي جعلت الشعوب ضحايا أطماعها الرأسمالية البغيضة، ونزقها في استغلال الشعب من اجل استحواذها على الأرباح وفوائض القيمة التي ينتجها هذا الشعب المغول على أمره، ثمة سؤال مشروع، ربما يجدر بكل عربي أن يسأله (إلى متى سأبقى مغلوبا على أمري)، وتعلمنا تجارب الأمم والشعوب أن الحقوق لا توهب، وإنما تنتزع انتزاعا، وأن الشعب الذي لا يموت جزء منه في سبيل الكل فإنه سيضمحل ويـــــتلاشى، مشكلتنا نحن الشعوب العربية اننا انتقائيون في كل شيء، حتى في تمثلاتنا لنصوصنا المقدسة، نأخذ على محمل الجد تلك الأحاديث التي ذكرناها آنفا عن (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، ولا تقوم الساعة حتى ينحسر الفرات)، ربما لأن العمل بمقتضاها هو عمل مؤجل، بينما نأخذ على محمل التأثر الوجداني فقط قول الرسول صلى الله عليه وسلم (احرصوا على الموت توهب لكم الحياة).
لم تفقد الشعوب العربية كرامتها وكبرياء أوطانها إلا حين عرف كمبرادوريو الســـــياسة والاقتصاد نقطة ضعفها بأنها مرتهنة للحياة، وخائفة على أمنها (الغذائي والوظيفي والاجتماعي.. وغيره)، بينما شعوب العالم الحر علمهم زعماؤهم أن الخوف على الحياة هو موت مؤجـــل، وقـــــد قال ذات مــــرة أحد الرؤساء الأمريكيين انه (من تنازل عن شيء من حريته في سبيل قليل أمنه خسر المشيتين). إذن ليس للشعوب العربية إلا أن تسترجع حقها في المقاومة بعد أن (أخذت عليها الحجة من السماء بالخبر ومن الأرض بالعبر).
مروان العياصرة
التسميات
عرب