فساد سلطة الثورة أم فساد أنظمة حكم تحاول إفساد الثورة ؟

عن الشهيد وليد نمر المعروف باسمه الحركي 'أبو علي إياد' أنه في عام 1970 وفي أحراش عجلون وإربد على أرض الأردن المباركة، وبعد أن كان ينشد نشيده المفضل: 'باسم الله باسم الفتح باسم الثورة الشعبية/ باسم الدم باسم الجرح اللي بينزف حرية/ باسمك باسمك يا فلسطين أعلناها للملايين/ عاصفة عاصفة عاصفة/ عاصفة عاصفة الله أكبر أعصفي/ دمريهم انسفيهم دمريهم انسفيهم فجري/ واشعليها ثورة مرة اشعليها ثورة مرة وانسفي/ انسفي الأرض بمدافع وازحفي/ عاصفة في كل دار عاصفة إصرار ونار/ عاصفة عاصفة عاصفة'، فإنه كان يشرح لنا أن الثورة الفلسطينية المباركة لم تبدأ منذ أربعة أعوام فقط، بل كانت قد بدأت منذ عام 1936 بقيادة مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني، حيث كانت هذه الثورة في وقت ما قد تمكنت من السيطرة الكاملة على معظم الريف الفلسطيني في مواجهة الاحتلال البريطاني، لكن مع وجود الجيب اليهودي الصهيوني بتأثيراته القوية داخل فلسطين وفي بريطانيا نفسها، بل والدول الكبرى أيضا، مما جعل الأمر أكثر صعوبة وتعقيداً، وعلى الرغم من ذلك كان الثوار يهاجمون المستعمرات ومراكز الشرطة الإنجليزية ويدمرون خطوط سكة الحديد والجسور، ويشتبكون مع الجنود وأفراد الشرطة الإنجليز في معارك ضارية كانت تسفر دائما عن خسائر من الجانبين، لكن بما أن الأمر مختلف الآن حيث أن الثوار لا يقفون على أرضهم ليحاربوا الأعداء المحتلين، بل ان الثوار قد بدأوا ثورتــــهم في بلاد الشتات، وتمر الأيام ويرحل الثوار وعاصفتهم- مضطرين للرحيل عن الأردن، التي كانت على بعد خطوات من أرضهم، إلى لبنان. ويعود 'الفتى' المصري إلى مصر بعد أن تعلم كيف تكون كرامة الرجال، وتمر الأيام لتصل إلى انتفاضة الخبز، التي أطلق عليها السادات 'انتفاضة الحرامية'، ليجد 'الفتى' نفسه مطاردا من الأمن ومطرودا للمرة الثانية من كلية آداب الإسكندرية، بسبب رسمي 'تجاوز نسبة الغياب'، وحينها قررت الرحيل، وهذه المرة وجدت معاونة المثقف العراقي فاضل الشاهر، الذي كان سفيرا للعراق في القاهرة، فكان الرحيل هذه المرة إلى بغداد، لكن كان الهوى الفلسطيني في القلب يشير عليه بالالتحاق بالأحبة في لبنان، لكن كيف يصل إليهم؟ ومن يدله على مكانهم؟ وفي بغداد عملت محررا بجريدة الجمهورية العراقية ووجدت ترحيبا من رئيس تحريرها سعد قاسم حمودي، الذي ارتبط بصداقة قوية معه إلى ان ترك الجريدة وزيرا للإعلام، وحل محله الشاعر حميد سعيد. 
وعن الأستاذ ناجي علوش أنه قال: 'الذي يقاتل لا يجوز أن يحسب حسابات مستوطن، فذات مرة أرسلت فتح دورة تدريبية إلى فيتنام، كان من عدادها خالد أبو خالد، فسأله الجنرال جياب، ماذا عن الشهداء ؟ فقال لهم إن الذي يقاتل لا يعود، وهو ليس مقامراً ليدخل في حسابات الربح والخسارة، والذي يحارب دائماً يفكر ما هو الأثر الذي تركه في العدو، وليس ماذا خسر، لأنك لو أردت أن تحسب وأن تقاتل ماذا تخسر من المال والأرواح لن تقاتل، لأن القتال خسارة مستمرة، والذي يضغط على زناد الكلاشنكوف ويطلق مخزنا واحدا من الرصاص، هو يخسر مالاً، والذي يطلق صاروخاً كذلك، وهكذا مع المقاتل المدرب باعتباره ثروة، فسنوات التدريب والخبرة ليست مجانية، إضافة إلى أنك تخسر إنساناً وطنياً محباً لوطنه، مقاتلاً شجاعاً يملك خبرة، فهي خسارة كبيرة، ولكن الذي يجبرك على مرارة الموت، ما هو أمر منه، الوطن يستحق كل ذلك، ويستحق أن نقاتل وأن نموت، وأن نقدم أولادنا وبناتنا، وأن نتألم وأن نتوجع لأن الحرية شيء كبير جداً'، وعن (المصالحة) قال: 'إن المصالحة الفلسطينية بالشكل المطــــروح الـــيوم بين حركتي فتح وحماس تضر بالقضية الفلسطينية، ان المصالحة اليوم تخدم الطرف المستسلم، فلا إمكانية للمصالحة عندما تكون هناك خيانة'.
أول مرة رأيت 'الأستاذ' فيها كانت سنة 77 في بغداد أثناء انعقاد مهرجان المربد الشعري: وجه طيب الملامح تختفي تحت ملامحه بهجة خفية لا مبرر لها إلا قلب مفتوح للحرية وذهن صاف متوقد يستطيع أن يحمل كل هذه الثقافة الموسوعية والدراية الحقيقية بمفهوم الثورة ومغزى التاريخ، نظرات نافذة وشارب كث وجبهة عريضة، لم أكن قد قابلته قبل ذلك وقدمني له الكاتب الكبير رشاد أبو شاور، وكنت قد تعرفت به قبلها بعامين في القاهرة عندما كان مع الشاعر الكبير أحمد دحبور يبحثان عن أحد المحلات لشراء جاكيت من الجلد، في أول لقاء لي مع 'الأستاذ' وبعد تلاشي حالة الرهبة الأولى في حضرته بدأت تعود لي رائحة فلسطين التي كنت قد اختزنتها في كل كياني منذ أحراش عجلون وإربد، وفي هذه اللحظة قررت الرحيل عن بغداد والالتحاق بالأحبة في لبنان وعلى الفور صارحت 'أبا إبراهيم' برغبتي، وتناقشــــنا في الأمر وقررت أن أرحل معه على نفس طائرته عائدا إلى بيروت، لكنه نصحني بأن أنزل مطار بيروت وحدي حتى لا يحسبني أحد عليه فيلحقني ضرر بالغ، وقدم لي النصيحة التي صارت دستوري إلى الآن في التعامل مع الثورة الفلسطينيــــة، وهي ألا أتدخل، كمصري، مطلقا في الشؤون التنظيمية ولا في الخلافات أو التحالفات بين المنظمات الفلسطينية مع بعضها البعض، ولتكن علاقاتي بالجميع، رغم ميولي الفتحاوية، وإذا كنت سوف أعمل في الإعلام الفلسطيني فليكن في الإعلام الموحد، الذي يشمل كل المنظمات الفلسطينية تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية وليس تحت راية أية منظمة من المنظمات، وقد التزمت حتى هذه اللحظة بنصيحة ناجي علوش، التي علقتها حلقا في أذني ودستورا لحياتي، فكنت وما زلت أحتفظ بصداقات رائعة مع أصدقاء من كل المنظمات الفلسطينية، رغم ما قد يكون هناك من خلافات فكرية أو سياسية، وكان ناجي علوش أول من نشر لي فصلا من روايتي في مجلة 'الكاتب الفلسطيني'، التي كان يصدرها اتحاد الكتاب الفلسطينيين، وكان يرأس تحريرها حيث كان ذلك بمثابة شهادة الميلاد الحقيقية لي ككاتب، فهي شهادة الميلاد التي وقع عليها ناجي علوش ويا لها من شهادة.
وفي بيروت بدأت أكون وجهة نظر خاصة بي- قد تكون خطأ بالطبع لكنها تبقى رؤيتي الخاصة وتجربة حياتي- عن الثورة الفلسطينية وعن 'الفساد' كأحد الأمراض المزمنة الذي ابتليت به الثورة الفلسطينية منذ اليوم الأول لولادتها، بعد أن أصاب جسدها وباء استقطاب الأنظمة العربية للثورة، فلم تكن هناك منظمة واحدة ليست مرتبطة بنظام عربي ما وتحمل راية هذا النظام وهي تقاتل من أجل فلسطين، لكن بنفس طريقة هذا النظام العربي الذي ترتبط به وتحمل رايته، وكان ياسر عرفات (القائد الرمز) دائما يصر على أنه 'مصري الهوى'، ذلك على خلفية نشأته طالبا بكلية الهندسة بالقاهرة، والعلاقات التاريخية الوثيقة التي ربطت بينه وبين شخصيات نافذة من أعضاء مجلس قيادة الثورة وعلى رأسها بالطبع جمال عبد الناصر (الزعيم الخالد)، حتى أن معظم القيادات الفلسطينية الفتحاوية كانوا دائما يؤكدون على أن فتح ولدت تحت جناح الناصريين، فيما كانت كل منظمة من المنظمات الأخرى تدافع عن وجهة نظر النظام العربي الذي يرعاها فيما يخص قضية فلسطين بشكل عام وفيما يخص التكتيكات والتحالفات والأهداف النضالية بشكل خاص، فكان لا بد أن تنتقل كل مظاهر فساد الأنظمة العربية إلى جسد الثورة الفلسطينية، حيث كانت 'الديكتاتورية' المستوردة من نظم الحكم العربية صفة ملازمة للقيادات كلها وبلا استثناء، لكن بقي هامش للمنافسة بين القيادات العليا على تجميع أكبر قدر من المؤسسات الفلسطينية تحت جناح كل من هذه القيادات العليا المهيمنة على منظمة التحرير، وإن كانت كلها من فتح، وأذكر أن ياسر عرفات (القائد الرمز) قام بتجميد ماجد أبو شرار مسؤول الإعلام الموحد بمنظمة التحرير، ونجح أبو جهاد (قائد قوات العاصفة) بفرض عبد الله حوراني أحد رجاله مسؤولا للإعلام الموحد، لكنه لم يستطع الاقتراب من مكتب ماجد أبو شرار، بل لم يستطع أن يحصل لنفسه على مقعد في نفس الطابق الثالث الذي كان به مكتب ماجد أبو شرار، وبعد معاناة شديدة استطاع الحصول على غرفة مكتب في الطابق السادس، لكن ماجد أبو شرار كان قد أصدر تعليماته بعدم التعامل مطلقا مع عبد الله حوراني حتى لو طلب فنجانا من القهوة، وبالفعل لم يستطع حوراني الحصول على فنجان قهوة وقضى المدة التي بقي فيها في صراعات جانبية أنهكته تماما مع القيادات الإعلامية التي كانت تدين بالولاء لماجد أبو شرار وأبو إياد، وكان لكل قائد كبير معاونون ومستشارون يدفع لهم الأموال والامتيازات للحصول على خدماتهم فتفشت الانتهازية والنفاق في معارك الوصول لأعتاب القيادات العليا، وكان من الممكن أن يكون بعض المستشارين من ذوي الحظوة من العرب غير الفلسطينيين، سواء كانوا من المقيمين في بيروت أو من القادمين من الأقطار العربية المختلفة، وكنت أعرق خجلا من كثرة الصحفيين والمثقفين المصريين الذين كانوا يحضرون إلى بيروت للحصول على آلاف الليرات اللبنانية أو الدولارات (كان الدولار في هذه الأيام يساوي ثلاث ورقات/ ليرات لبنانية) من دون أن يقدموا شيئا ما يستحقون عليه هذه الأموال النضالية، لاسيما أن بعضهم أنشأ لنفسه بعد ذلك صحيفة خاصة أو شارك بهذه الأموال النضالية في افتتاح قناة فضائية، والأدهى والأمر ما حدث لشخص كان يعمل معنا في وكالة الأنباء 'وفا' ولم يكن هذا الشخص يتمتع بأية موهبة إلا لعب 'الفليبر'، حيث اصطحبني في احدى المرات إلى مقر هذه الألعاب تحت بناية في شارع جامعة الدول العربية قرب مستديرة الكولا، كما وكانت هذه هي المرة الأولى في حياتي التي تعرفت فيها على لعبة 'الفليبر'، وهو لم يكن فلسطينيا أو حتى عربيا كما اتضح فيما بعد، فمع المنظمات التي تدين بالولاء لسوريا كان يقنعهم بأنه معارض للنظام العراقي، مع أنه من أصول عراقية ومع المنظمات التي تدين بالولاء للنظام العراقي كان يقنعهم بأنه معارض للنظام السوري مع أنه من أصول سورية ودارت الأيام دورتها لأراه في القاهرة بنفس 'الحسنة' على ذقنه تحت فمه تحمي سيارته خمس سيارات مجهزة لحماية الكبار، وعرفت أن أبا جهاد كان قد قدمه للقائد الرمز فأصبح أحد مستشاريه المقربين، لكنه استطاع الهروب بالملايين من أموال الثورة ليستقر بها في القاهرة مستثمرا مع أصدقائه من لصوص البنوك المصرية، وعرف الجميع أنه لم يكن سوريا كما أنه لم يكن عراقيا ومنذ البداية لم يكن فلسطينيا، وهناك من يظن أنه تركماني لكنه بالتأكيد ليس من جنس العرب.
ليس دفاعا عن أحد فالسلطة الفلسطينية نفسها قد اعترفت بوجود حالات صارخة من الفساد، فأنا أعرف عشرات الحالات من الفساد التي رأيتها وعاشرتها بنفسي وهربت من مستنقعها منذ صغري وخلفتها خلف ظهري غير آسف عليها ورفضت العرض الكريم من رئيسي المباشر في 'وفا' زياد عبد الفتاح في أن أستمر في تقاضي 'المخصص' بعد مغادرتي بيروت، لكني أقول أن كل مظاهر الفساد يمكن الخلاص منها إذا أمكن الخلاص من الارتباط بالأنظمة العربية الفاسدة، فهل يمكن ذلك؟ 
براء الخطيب
روائي مصري
أحدث أقدم

نموذج الاتصال