خيرا لم يعد ماكريستال يطيق الانتظار أو الصمت، أمام إخفاقات أفغانستان المتتالية والأحداث الأليمة التي تلم بالحلف وتطالعنا بها الأنباء كل ساعة وحين، ماكريستال الماكر النحيل لمن لا يعرفه هو مهندس فكرة الصحوات العراقية والتي استطاع من خلالها إضافة لأمور أخرى تحقيق نقاط إيجابية بالنسبة للبيت الأبيض بعد سلاسل من الفشل شهدتها الخطط الأمنية الأمريكية التي تعاقبت على شارع عراقي يئن تحت وطأة انهيار أمني كامل، بعد عمليات بمختلف المسميات وخطط أمنية بمختلف القادة والتوجهات، لم يتحقق ما يذكر إلا مع ماكريستال، الذي قاد الإستراتيجية الأمنية في العراق استراتيجية دعت أمريكا لتتبجح بها وما تلاها كإنجاز بعد زمن عزت فيه عليها الإنجازات.
أرادت إدارة اوباما نقل التجربة الماكريستالية بل وحتى استنساخها في أفغانستان التي كانت تعيش فيها الولايات المتحدة وحلفاءها الويل في أسوأ أيامها وكوابيسها تحت ضربات طالبان، انتقل ماكريستال بدهائه العسكري المدني إلى أفغانستان فرأيناه بصورة الابن البار وهو يصافح شيوخ القبائل وجالس في مجالسهم، وبصورة المخلص وهو بين جنوده، وبصورة الخير المستعد لبذل الغالي والنفيس وهو بين أفراد حكومة كرزاي، جادل وجالد ولكن الأمر كان مختلفا ولم تكن بيئة جبال أفغانستان ببيئة نهري دجلة والفرات، كان كل شيء مختلفا وما كان قبل قليل حلما لماكريستال وإدارة اوباما صار كابوسا مرعبا يستيقظ منه على الانفجارات والضحايا، أضاف ماكريستال بعض الرتوش على الإستراتيجية فطلب الدعم اللوجيستي، لكنه لم يستطع الوقوف على مكامن الخلل، وكانت هجمات طالبان تتصاعد وأجواء أفغانستان تتأزم بحقيقة واحدة الأمر ليس على ما يرام، وكانت فكرة الصحوات رغم محاولات ماكريستال المستميتة دربا من الجنون حتى بدا أنه حيث يريد تأسيسها هو بالضبط حيث يعيش الطالبان، صمد ماكريستال أمام مشهد لا يبدو قادرا على استيعاب كثير من جوانبه إلا أنه صموده هذا لم يكن سوى مرحلة هدوء ربما لاتخاذ قرار أمام حقيقة احتقان وضع يتأزم، ضاق به صدر ماكريستال لينفجر عن تلك التصريحات النارية التي طالت معظم أعضاء حكومة سيد البيت الأبيض الأسمر، ربما تنم هذه التصريحات عن حالة ارتباك أمام الحالة الأفغانية المعقدة، ارتباك لا شك ستنتج عنه حالة إحباط لا محالة لدى الإدارة الأمريكية التي كانت ترى في ماكريستال المخلص من الورطة الأفغانية، أمام حدة تصريحات ماكريستال لم يكن أمام اوباما خيارات كثيرة فالبيت الأبيض لا بد أن تحفظ له هيبته، ولم يشفع لماكريستال انجاز العراق ولا الصبر أشهرا على أفغانستان، وبعد ساعات ساءل فيها اوباما نفسه كثيرا ماذا عليه أن يفعل في أمر ماكريستال قدم الأخير استقالته التي كانت محل ترحيب.
تصريحات ماكريستال يمكن قراءتها من منظورين، منظور أول وهو أن ماكريستال عاش حالة يأس من الحالة الأفغانية المهترئة، وصار يرى في ما يجري هنالك مشكلة اكبر من كل التصورات التي كانت مفترضة، وصار مقتنعا بالعجز الأمريكي أمام هذا الواقع، أضف إلى ذلك مشاكل التموين والتمويل ووقائع الجغرافيا وكوابيس التاريخ فدماء السوفييت لم تجف بعد من علا السفوح، أمام حالة انعدام الأمن والفوضى العارمة هذه لم يكن لماكريستال من منفذ إلا تصريحات من هذا الشكل يفرج بها عن نفسه هذا الضغط، منظور ثاني: وهو أن الإدارة الأمريكية لا تعطي المسألة الأفغانية ما تستحق من العناء والدعم والانتباه وتعيش حالة ضجر جعلتها تتراخى في متابعة تطوراته بشكل جدي وفعال تاركة القوم لمصائرهم بين ضربات الطالبان، ورفض الأفغان، والصعوبات الجغرافية والمناخية ما أخرج السيد عن صمته، وفي كلتا الحالتين فالأمر المتفق عليه الآن هو أن الأزمة الأفغانية تتفاقم، وتسير من سيئ إلى أسوأ وتبدو الأمور تنفلت من القبضة الأمريكية، خاصة وأن السيد كرزاي يبدو متذمرا من العباءة الأمريكية ولم يعد يريحه ظل مظلة العم سام التي استظل بها زمنا، وباختصار فأفغانستان تبدو أمرا مختلفا، وستبدي الأيام المقبلة مع القائد الجديد السيد باتريوس ما إن كانت المشكلة من ماكريستال أو الإدارة الأمريكية والحلفاء، أم أن المشكلة أكبر من ذلك كله ولا تقبل حلا حقا وهي أفغانستان ذاتها والنهج الأمريكي المتبع هناك المرفوض شكلا ومضمونا ولا تنفعه لا الخطط ولا الاستراتيجيات ولا رتوش التجميل الصادرة من الدي سي واشنطن، وفوق هذا وذاك ربما حدث الإقالة أو الاستقالة هذا هو العزف الذي سيرقص عليه ماكريستال زمنا وهو يرى أيام أفغانستان الحالكة تصير أحاديث ذكرى، وربما ليس أفضل من هكذا طريقة لتتخلص من هكذا موقف وأنت في هكذا رتبة، ربما هو ثواب فيما أراده الآخرون عقاب.
عبد الله ولد محمد عبد الرحمن
التسميات
أمريكا