على البساط الأحمر انتهى كل شيء، قبلات واحتضان وابتسامات تختلط بتجاعيد الوجوه التي يحاولون شدها بطريقة ترجع العجوز الى صباه، لكن الزمن يمر من بين التجاعيد المتساقطة، ضاحكا، مستخفاً بقدرة هؤلاء على اطالة سنوات كراسيهم التي ينخرها السوس.
في مطار الجزائر كان الاستقبال الرئاسي بين مبارك وبوتفليقة، عجوزين مترهلين، لا اعلم لماذا الحكام العرب يرتعبون من الشعر'الأبيض، يحرصون دائماً على ان تبقى الصبغة السوداء في حالة حصار للشيب، كأن الشعر الأبيض ليس له الوقار والتجربة والحكمة وعامل العمر السريع الذي تتعدد محطاته، وكأن سواد الشعر دليل شباب وعافية وقدرة على ادارة السلطة، انهم يتمسكون بذيول جفاف البشرة حتى يصبحوا كالمومياءات المحنطة.
وكان اللقاء الحميم الذي تنبعث منه رائحة الأخوة والصداقة والعزاء الحار، فالرئيس المصري مبارك جاء لتعزية الرئيس الجزائري بوفاة شقيقه، قضية انسانية لا جدال عليها بل تعكس النبض السياسي العربي الذي يرسم حسب مشاعر الزواج او الموت .
لكن الذي رأى وسمع ما جرى بين مصر والجزائر على اثر تصفيات كأس العالم في كرة القدم وردود الفعل التي نتجت من قبل الطرفين يتعجب ويصاب بالذهول، لان الواقع كان على حافة حرب دموية تزهق أرواح المئات، عدا عن العداوة والشراسة في السلوكيات والألفاظ، نذكر منها مثلاً في الجزائر طرد الكثير من العائلات المصرية، والجزائري المتزوج مصرية أصبح وضعه صعباً والعاملون المصريين هناك تعرضوا للترويع والتخويف، وشتائم عبر وسائل الأعلام، وتهديد السفارة المصرية والعاملين فيها، والتلفزيون الجزائري يعلن منع شراء مسلسلات مصرية وعدم استيراد الحديد وابطال كل الصفقات.. الخ، اما في مصر فقد شنت الحرب على أعلى المستويات السياسية من المعايرة بالمال والسلاح ابان حرب تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي الى التضامن تحت هضبة الهرم، فقد تجمع هناك مئات الفنانين المصريين وأعلنوا كرههم للجزائر، ومنهم من مزق شهادات التقدير وحطم الجوائز التي حصل عليها من الجزائر، لقد رأينا الشارع المصري يغلي كرهاً عدا عن البرامج التي غذتها الفضائيات باستضافة سياسيين ورجال فكر وفنانيين، جميعهم صبوا الزيت على النار وزادوا من لهيب الحرائق بحجج ضرب كرامة المصريين او كرامة الجزائريين. مع ان الواقع العربي الحقيقي عبارة عن ممسحة مسح بها الكرامة العربية وعلق الممسحة على جدران التاريخ المعاصر .
كانت حربا شفوية بين الدولتين تفرج عليها الشرق والغرب وظهرنا أمام المجتمعات الدولية كأننا قبائل وطوائف وعشائر تريد الانتقام وكسر رؤوس الأعداء. في هذه الحرب الطاحنة بين الاشقاء من اجل طابة، فتح العالم ارشيفه واخذ يعدد الدول التي من اجل كرة قدم تحاربت واشهرها الحرب بين ( هندوراس والسلفادور) عام 69 التي راح ضحيتها عشرة الآف قتيل.
كنا قاب قوسين من نشوب حرب عسكرية - مصرية جزائرية - زرعت فيها قنابل الكره والحقد وخرج ابطال الدوري السياسي مثل ابني الرئيس مبارك (جمال وعلاء) اللذين تسلقا الحدث ونصبا خيام التهويل في استاد السودان حين اعلنا ان المنتخب الجزائري اعتدى على المنتخب المصري ويجب تلقين الجزائريين درساً قاسياً، وقد بدأت وسائل الأعلام تعزف نشيد جمال مبارك حتى وصل الامر الى المطالبة بتوريث الحكم لجمال او علاء لأن مصر بحاجة الى شهامة هذا او ذاك .
فجاة يزور مبارك الجزائر ويخرج وزير الاعلام المصري (انس الفقي) محذراً من التكلم عن الجزائر بسوء، الجزائر دولة صديقة وحبيبة .
فاذا كان الرئيس مبارك والرئيس بوتفليقة يستطيعان بكل هذه البساطة والساعات القليلة ردم الخلافات وتبديد الضباب الذي تراكم أمام عتبات البيوت! اذا كان مبارك يحمل مفاتيح اللقاء وادارة الأزمة وكذلك بوتفليقة فلماذا كان الصمت وتزويد الشارع الجزائري والمصري بحطب الحقد؟ لماذا سمحا للخلافات بالتصاعد الناري الى درجة القطيعة الجنونية؟! لماذا لم يقم الرئيس المصري بزيارة الجزائر او العكس والسماح للعقلانية بالتدخل بدلاً من توسيع رقعة الخلافات الفارغة؟ هل شقيق الرئيس الجزائري الذي جاء مبارك للتعزية بوفاته أغلى من المشاعر القومية والوطنية التي تكسرت وتحولت الى حطام مرمي تحت'الأقدام .
نعرف انه عند لقاء حاكم عربي بآخر يكون خلف عباءته او بدلته سكيناً مجهزة للنيل من رئيس ثالث ورابع، لكن عند السكوت والصمت يكون الطعن والتقطيع في أوصال الشعوب التي هي بحاجة الى مشاعر التضامن والأخوة، فالى متى ستبقى الشعوب العربية ضحايا لمزاج حكامها وتهور تصرفاتهم؟ لقد قيل (وراء كل رجل ناجح امراة)، ونحن نقول وراء كل شعب حاقد قائد لا يعرف مخاطر صمته.
شوقية عروق منصور
التسميات
عرب