نبدأ بسؤال قديم: ما القانون الذي يحكم العلاقات الدولية، الأخلاق أم المصالح؟ ويكون متفائلاً من يجيب بأنها: الأخلاق، ومتشائماً من يجيب بأنها: المصالح. لكن، سينبري من بين الحشود المتفائلة والمتشائمة ذلك الإنسان «الواقعي» الذي يجيب بأنها: المصالح المنضبطة بالأخلاق.
لكن واقعياً، من نوع آخر، سيجري تعديلاً قد يبدو طفيفاً، لأول وهلة، على الإجابة السابقة، لتصبح: الأخلاق المنضبطة بالمصالح. ولا يخفى الفارق الكبير بين الإجابتين المعكوستين!
لطالما تم الحديث عن «الأخلاقيات الدولية» و «المصالح الدولية» في سياق البحث عن مدخل تفسيري للعلاقات الدولية. ولم يعد هناك شك في حضورهما معاً، لكن الشك يكمن وبقوة في أيهما يحضر قبل الآخر وأيهما يبقى حتى الختام؟!
الإجابة التي تكرست من شواهد وظواهر عدة: أن الأخلاق هي التي تحضر أولاً، لكن المصالح هي التي تبقى في الختام، وموجز ذلك أنه إذا تعارضت الأخلاق والمصالح فإن الأخلاق هي التي تؤجل إلى حين انقضاء المصلحة أو الأزمة.
لنأخذ هنا نموذجاً واحداً من أنساق ثنائية الأخلاق / المصالح، هو «التعسكر»، فالأخلاق تحض البشر على السلام وتجنب ويلات الحروب، لكن المصالح تحفز نحو تصنيع الأسلحة الحربية، بما لها من إيرادات مغرية، يمكن تبريرها أخلاقياً بأنها إيرادات توظف لتحقيق التنمية في البلدان المصنعة للسلاح، بل ربما أمكن تبرير تصنيع الأسلحة وإشعال الحروب لأجلها، بمبرر أخلاقي غاية في النبل هو توظيف نسبة من إيرادات الأسلحة كمعونات للدول الفقيرة والمعوزة، بل ربما كان من بينها الدول المستهدفة بحروب وأسلحة صانعي الحروب، كنموذج العراق حالياً.
ولن يكون صعباً على دول السلام المسلح أن تجد من يبرر لها قلقها من صراع الأخلاق والمصالح، كما فعل برنارد لويس حين أعلن أنه «قد يكون لانتشار السلاح نتيجة عكسية، أي أن يحدّ من إمكانات الحرب عبر توازن الردع المتبادل». يثبت لويس، بمقولته هذه، أن بعض أطروحات السلام أشد فتكاً وعنفاً من الحرب ذاتها!
هذه الشهوة للبقاء، قوياً ومهيمناً مهما كان الثمن، هي التي تدفع الإنسان في شغف دائم إلى لذة «البحث عن عدو». يذكّر القوي دوماً بقوته من حيث إنه «مستهدف» من لدن الآخر. وهي لذة تصيب الدول كما تصيب الأفراد، فما الذي يثبت نجاحي إذا لم يتوافر أمامي عدو يضيق ويغتاظ من هذا النجاح؟!
عندما أوشك الاتحاد السوفياتي على السقوط، حذر جورجي أرباتوف مستشار الرئيس غورباتشوف، الأميركيين عام 1987 بالقول: «نحن نفعل شيئاً رهيباً حقاً لكم... إننا نحرمكم من عدو». وقد صاغ جون أبدايك الأمر هكذا: «ما الهدف من أن يكون المرء أميركياً من دون الحرب الباردة»؟! كأن أبدايك غير مطمئن بأن الحروب الساخنة «الصغيرة» هنا وهناك، لن تكون كافية لتوفير «العدو اللازم»! إنه السعي المحموم لرعاية توأمة الدولة والحرب، إذ كما قال تشارلز تيلي: «الحرب صنعت الدولة، والدولة صنعت الحرب».
التسميات
أمريكا