أسرة محمد علي في مصر: بناء دولة حديثة وتحديات السلطة
تُعد أسرة محمد علي باشا، التي حكمت مصر لما يقرب من قرن ونصف (1805-1953)، من أهم الأسر الحاكمة في تاريخ مصر الحديث. لم تكن مجرد سلالة حاكمة، بل كانت وراء تحولات جذرية شكلت وجه مصر الحديثة، من التحديث العسكري والاقتصادي والتعليمي إلى بناء مفهوم الدولة القومية الحديثة، مروراً بتحديات الاستقلال والصراع على السلطة.
أولاً: محمد علي باشا (1805-1848): مؤسس الدولة الحديثة
يُعتبر محمد علي باشا، الألباني الأصل، المؤسس الحقيقي لمصر الحديثة. وصل إلى حكم مصر في فترة مضطربة بعد انسحاب الحملة الفرنسية وصراع المماليك والعثمانيين. تمكن بذكائه وحنكته العسكرية والسياسية من توطيد حكمه والقضاء على منافسيه، أبرزهم مذبحة القلعة عام 1811 التي أنهت نفوذ المماليك.
أبرز إنجازاته:
- بناء الجيش المصري الحديث: أدرك محمد علي أهمية القوة العسكرية. فأنشأ جيشاً نظامياً قوياً على الطراز الأوروبي، وأرسل البعثات التعليمية إلى أوروبا لتعلم فنون الحرب الحديثة، وأنشأ المدارس العسكرية في مصر. هذا الجيش كان نواة مشروعه التوسعي في السودان والشام والأناضول.
- التحديث الاقتصادي: طبق نظام الاحتكار في الزراعة والصناعة والتجارة لضمان موارد ثابتة للدولة. أدخل زراعة القطن طويل التيلة الذي أصبح المحصول النقدي الرئيسي لمصر. أنشأ المصانع الحديثة كمعامل السكر والأسلحة والنسيج، وبنى ترسانة الإسكندرية لبناء السفن.
- الإصلاح الإداري: أعاد تنظيم الإدارة المصرية وقسم البلاد إلى مديريات ومراكز وقرى لضبط شؤون الحكم وتحصيل الضرائب.
- التعليم والثقافة: اهتم بالتعليم إيماناً منه بأهميته في بناء الدولة. أنشأ المدارس العليا (المدارس المتخصصة) في الطب والهندسة والمدفعية وغيرها، وأرسل البعثات الطلابية إلى أوروبا (خاصة فرنسا) لتعلم العلوم الحديثة، مما ساهم في ظهور جيل من المثقفين المصريين.
- مشروع الدولة العظمى: سعى محمد علي لتوسيع نفوذ مصر وبناء إمبراطورية كبرى، خاض حروباً ناجحة في الجزيرة العربية والسودان والشام، وكاد أن يقضي على الدولة العثمانية لولا التدخل الأوروبي الذي حد من طموحاته.
ثانياً: خلفاء محمد علي: بين الإصلاح والتحديات
بعد محمد علي، توالى على حكم مصر عدد من أبنائه وأحفاده، كل منهم واجه تحديات مختلفة وترك بصمته الخاصة:
- إبراهيم باشا (1848): حكم لفترة وجيزة جداً بسبب مرضه، ولكنه كان قائداً عسكرياً بارزاً وأكمل إصلاحات والده العسكرية.
- عباس الأول (1848-1854): اتسم حكمه بالجمود والتحفظ، حيث أوقف العديد من المشاريع التحديثية لوالده وجده، ولكنه شهد بداية إنشاء الخطوط الحديدية في مصر.
سعيد باشا (1854-1863): تميزت فترة حكمه بالانفتاح على أوروبا، ومن أبرز إنجازاته:
- بدء حفر قناة السويس ومنح امتياز حفرها لفرديناند ديليسبس.
- إنشاء البنك الأهلي المصري.
- إلغاء نظام الاحتكار الزراعي.
- الخديوي إسماعيل (1863-1879): تُعد فترة حكمه نقطة تحول في تاريخ الأسرة، حيث شهدت ازدهاراً كبيراً في المشروعات التنموية ومحاولة تحويل مصر إلى قطعة من أوروبا، لكنها أدت أيضاً إلى تفاقم الديون الأجنبية:
- التنمية العمرانية والبنية التحتية: أدخل الإنارة بالغاز إلى القاهرة، وأنشأ دار الأوبرا الخديوية، ومد الجسور والطرق، ووسع شبكة السكك الحديدية والبرق والبريد.
- التعليم والثقافة: أسس دار الكتب المصرية، ودار الآثار، ودار العلوم، ووسع المدارس الابتدائية والثانوية والمتخصصة، وأنشأ الجمعية الجغرافية.
- الديون والتدخل الأجنبي: اعتمد على الاقتراض الخارجي لتمويل مشروعاته الطموحة، مما أدى إلى تراكم الديون وتدخل الدول الأوروبية (بريطانيا وفرنسا) في الشؤون المصرية، والذي انتهى بخلعه وتعيين ابنه توفيق.
ثالثاً: الاحتلال البريطاني وتآكل السلطة (1882-1952)
بعد الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882، تآكلت سلطة أسرة محمد علي بشكل كبير، وتحول الخديوي إلى حاكم اسمي تحت الإشراف البريطاني:
- الخديوي توفيق (1879-1892): حكم في ظل الاحتلال البريطاني، وشهدت فترة حكمه بداية المقاومة الوطنية ضد الاحتلال.
- الخديوي عباس حلمي الثاني (1892-1914): حاول استعادة بعض النفوذ للسلطة الخديوية، ودعم الحركة الوطنية في بعض الأحيان، لكن بريطانيا عزلته عند اندلاع الحرب العالمية الأولى وأعلنت الحماية البريطانية على مصر.
- السلطان حسين كامل (1914-1917): أول حاكم لمصر يلقب بالسلطان بعد إلغاء بريطانيا للسيادة العثمانية وإعلان الحماية.
- السلطان فؤاد الأول (1917-1936): أصبح ملكاً على مصر بعد تصريح 28 فبراير 1922 الذي ألغى الحماية البريطانية واعترف بمصر كدولة مستقلة ذات سيادة (مع تحفظات). شهدت فترة حكمه صراعات بين القصر والأحزاب السياسية والاحتلال البريطاني.
- الملك فاروق الأول (1936-1952): آخر ملوك أسرة محمد علي. شهدت فترة حكمه ازدياد الوعي الوطني، وتفاقم المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، وضعف الجيش المصري في حرب فلسطين 1948، مما مهد الطريق لثورة يوليو 1952.
رابعاً: نهاية حكم الأسرة وثورة يوليو 1952
وصل حكم أسرة محمد علي إلى نهايته في 23 يوليو 1952، عندما قامت حركة الضباط الأحرار (التي عرفت لاحقاً بثورة يوليو) بانقلاب عسكري أطاح بالملك فاروق الأول. تنازل فاروق عن العرش لابنه الرضيع أحمد فؤاد الثاني تحت وصاية مجلس وصاية، ولكن بعد أقل من عام، وفي 18 يونيو 1953، تم إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية المصرية، وبذلك انتهى حكم أسرة محمد علي الذي استمر 148 عاماً.
خلاصة: إرث أسرة محمد علي
تركت أسرة محمد علي إرثاً معقداً ومتنوعاً في مصر:
- الدولة الحديثة: قامت هذه الأسرة ببناء مؤسسات الدولة الحديثة في مصر، من الجيش إلى الإدارة والتعليم والاقتصاد، ووضعت الأساس لمصر ككيان مستقل بذاته.
- التحديث والنهضة: قادت مصر في فترة نهضة وتحديث غير مسبوقة، أدخلت خلالها العديد من مظاهر المدنية والحضارة الحديثة.
- الديون والتبعية: كانت سياستها الاقتصادية، خاصة في عهد الخديوي إسماعيل، سبباً رئيسياً في تراكم الديون والتدخل الأجنبي الذي أدى إلى الاحتلال البريطاني.
- الهوية الوطنية: ساهمت فترة حكمهم في بلورة الهوية المصرية الحديثة وظهور حركات وطنية تطالب بالاستقلال.
على الرغم من التحديات والانتقادات، لا يمكن إنكار الدور المحوري لأسرة محمد علي في صياغة تاريخ مصر الحديث وجعلها قوة إقليمية تسعى إلى الاستقلال والتقدم.