المجاز المرسل المركَّب: سبر أغوار الدلالات الخفية في اللغة العربية
يُعد المجاز المرسل المركَّب فنًا بلاغيًا دقيقًا يكشف عن براعة اللغة العربية في التعبير عن المعاني المتعددة بطرق غير مباشرة. لا يقتصر تأثيره على إضفاء الجمال والروعة على النص، بل يضيف إليه عمقًا وتركيبًا دلاليًا يُغني فهم المتلقي. إنه ليس مجرد تغيير في اللفظ، بل هو تحول في وظيفة العبارة بأكملها، لتخدم غرضًا بلاغيًا أعمق من معناها الظاهر.
تعريف المجاز المرسل المركَّب:
يمكن تعريف المجاز المرسل المركَّب بأنه: الكلام المستعملُ في غير المعنى الذي وضعَ له في الأصل، وذلك لوجود علاقةٍ غير المشابهة بين المعنى الأصلي والمعنى المستعمل فيه، مع وجود قرينةٍ واضحةٍ تمنع من إرادة المعنى الوضعيِّ (الحقيقي) للعبارة.
وبعبارة أبسط، فإننا نستخدم جملة أو عبارة كاملة لها معنى حقيقي معين، لكننا نقصد بها معنى آخر تمامًا. هذا المعنى الجديد لا يشبه المعنى الأصلي، بل يرتبط به بعلاقة مختلفة (مثل السببية، اللزوم، أو الحالة). ما يجعل المتلقي يفهم المعنى المقصود هو وجود قرينة (دليل) في السياق تمنع من فهم المعنى الحقيقي وتوجه الذهن إلى المعنى المجازي.
أغراض المجاز المرسل المركَّب واستخداماته البلاغية:
يقع المجاز المرسل المركب في سياقين رئيسيين، يتمثل كل منهما في تحول دلالي من نوع معين:
أولاً: المركبات الخبرية المستعملة في الإنشاء:
هذا النوع من المجاز المرسل المركب يحدث عندما تكون الجملة في ظاهرها جملة خبرية (تُفيد إخبارًا عن شيء معين)، لكنها في الحقيقة تُستخدم لإنشاء طلب، أو تعجب، أو تعبير عن شعور معين، وهكذا. هذا التحول الوظيفي يخدم أغراضًا بلاغية متعددة، منها:
1. التحسُّر وإظهار التأسف:
يستخدم المتكلم عبارة خبرية ليبدي حزنه وأسفه على أمر فات أو ضاع. القرينة هنا غالبًا ما تكون السياق العام للكلام، أو حال المتكلم، أو ما يتبعه من عبارات.
- مثال من قول البارودي:
ذهبَ الصبا ، وَ تولتِ الأيامُ
فعلى الصبا، وَ على َ الزمانِ سلامُ
البارودي هنا يقول "ذهب الصبا" و"تولت الأيام" وهي عبارات خبرية تُفيد بانتهاء الشباب ومضي الأيام. لكنه لا يُخبرنا بذلك فحسب، بل هو يستخدم هذه العبارات لإنشاء التحسُّر والتأسف العميق على ما فات من شبابه الجميل. القرينة هنا هي كلمة "سلام" في الشطر الثاني، والتي تأتي هنا بمعنى الوداع الأبدي والأسف على الفراق.
- مثال من قول جعفر بن عُلبة الحارثي:
هَوايَ مع الرَّكْبِ اليَمانِينَ مُصْعِدٌ
جَنِيبٌ وجُثْمانِي بمَكَّةَ مُوثَقُ
في هذا البيت، يصف الشاعر حاله بأن "هواه" (أي حبه وشوقه) ذهب مع المسافرين نحو اليمن، بينما "جسمه" مقيد في مكة. ظاهره خبر، لكن المقصود به إظهار الأسف والحزن الشديد الذي ألم به بسبب فراق أحبته وعدم قدرته على اللحاق بهم. القرينة هنا هي التعبير عن التناقض بين الروح التي تحلق والجسم المقيد، مما يدل على الألم والتحسر.
2. إظهار الضعف والفقر إلى الله:
يستخدم المتكلم عبارة خبرية ليبين عجزه وضعفه وحاجته الماسة إلى عون الله وتوفيقه.
- مثال من القرآن الكريم على لسان موسى عليه السلام:
{رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (القصص: 24)
هذه الآية الكريمة، على لسان نبي الله موسى عليه السلام، هي في ظاهرها إخبار عن فقره وحاجته للخير الذي أنزله الله. لكنها في سياق الدعاء تُستعمل لإظهار أقصى درجات الضعف والمسكنة والافتقار إلى الله تعالى، لطلب معونته ورزقه.
- مثال من قول الشاعر:
رَبَّ إني لا أستطيعُ اصطباراً
فاعفُ عنِّي يا منْ يقيلُ العثارا
الشاعر هنا يُخبر ربه بأنه لا يستطيع الصبر. هذا الإخبار ليس مجرد معلومة، بل هو تعبير عن ضعفه الشديد وعجزه أمام ما يواجهه، وهو تمهيد لطلب المغفرة والعفو. القرينة هنا هي صيغة الدعاء والاستغاثة التي تتبع العبارة.
3. إظهار السرور والفرح:
يمكن استخدام العبارة الخبرية للتعبير عن الفرحة والبهجة، وكأنها إشهار للخبر السعيد.
- مثال:
كُتِبَ اسمي بين الناجحين.
هذه الجملة خبرية في تركيبها، فهي تُخبر عن نجاح المتكلم. لكنها تُستخدم في مقام التعبير عن الفرح والسرور بهذا النجاح، وكأن المتكلم يصرخ بفرحته بدلًا من أن يخبر بها فقط.
4. الدعاء:
تُستخدم العبارات الخبرية للدعاء، وهذا شائع في اللغة العربية.
- مثال:
نجَّحَ اللهُ مقاصدنا.
هذه العبارة خبرية في تركيبها (الفاعل "الله" والفعل "نجَّحَ"). لكنها تُستخدم هنا لإنشاء الدعاء بطلب التوفيق من الله تعالى لتحقيق المقاصد.
- مثال:
أيها المجاهدُ لك البقَاءُ.
هذه الجملة تُخبر بأن "البقاء" (أي دوام العمر) للمجاهد. لكنها في الحقيقة دعاء للمجاهد بدوام الحياة وطول العمر.
ثانياً: المركبات الإنشائية المستعملة في الخبر
هذا النوع هو عكس النوع الأول، حيث تكون العبارة في ظاهرها جملة إنشائية (أمر، نهي، استفهام، إلخ)، لكنها تُستخدم لإفادة معنى خبري. العلاقة هنا غالبًا ما تكون السببية أو المسببية؛ فالإنشاء قد يكون سببًا للإخبار، أو العكس.
- مثال من الحديث الشريف:
«مَنْ كذَب على متعمداً فلْيَتَبوأ مقعده من النارِ»
العبارة "فليتبوأ مقعده من النار" هي في ظاهرها أمر (صيغة فعل الأمر: لِـ + يتبوأ). ولكن المعنى الحقيقي الذي يقصده النبي صلى الله عليه وسلم ليس أمرًا للمتلقي بأن يجلس في النار، بل هو خبر وإخبار عن مصير الكاذب على النبي متعمداً، وأن جزاءه هو دخول النار.
هنا، تكمن العلاقة في السببية والمسببية:
- الإنشاء (الأمر الظاهري): هو سببٌ لـ
- الإخبار (المعنى الحقيقي): بأن من فعل ذلك، فإن مصيره النار.
القرينة التي تصرف الأمر عن معناه الحقيقي هي استحالة أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحداً بالتبوء من النار، مما يوجه الذهن إلى المعنى الخبري التحذيري.
الخلاصة: لماذا المجاز المرسل المركَّب؟
يُضفي المجاز المرسل المركب على اللغة العربية عمقًا وثراءً، ويُمكِّن المتكلم من التعبير عن المعاني المعقدة بطرق بليغة ومؤثرة. إنه فن من فنون البلاغة يُظهر قدرة اللغة على التكيف والتعبير عن أدق المشاعر والأفكار، من خلال تحويل وظيفة الجملة من الإخبار إلى الإنشاء، أو من الإنشاء إلى الإخبار، وذلك لغايات بلاغية تخدم المقام والسياق.
التسميات
علم البلاغة