النص القراني - الموسيقى الشعبية المغربية - عبد العزيز بن عبد الجليل



تنضوي تحت المفهوم العام للفنون الشعبية عدة وسائل تعبيرية، يعتبر كل واحد منها فنا قائما بذاته، كفن الرقص وفن الغناء، والفنون الشعبية - مهما كان نوعها - مرتبطة ارتباطا وثيقا بالبيئة لأنها فيها ولدت، وبين أحضانها نمت وترعرعت، وكذلك كانت الموسيقى الشعبية تعبيرا عن البيئة في أصالتها أكثر مما كانت تعبيرا عن الإبداع الفردي...

وإذا كانت الموسيقى فنا يطبع الإبداع الفردي ويعكس عواطف الفنان المؤلف قبل غيرها، فإن الموسيقى الشعبية تتجاوز الفرد إلى الجماعة، فتعكس آمال الشعب وأفراحه وأحزانه.

ولقد اعتمدت الموسيقى الشعبية - لضمان بقائها وحفظها - على وسائل بدائية وبديهية، تقوم على الحفظ والتداول الشفوي جيلا بعد جيل، بعيدا عن وسائل التدوين والكتابة، ولذلك ظلت تطبعها العفوية وقابلية الارتجال، كما ظلت تغذيها عبر الأجيال والعصور إنتاجات وإبداعات تستمد أصولها من المعطيات الفنية المتوارثة، ولكنها في الوقت نفسه تبيح التصرف البديهي، ولا تجد فيه ما يمس بأصالة الفن الشعبي.

وهكذا نستطيع أن نؤكد أن الموسيقى الشعبية، كغيرها من الفنون الشعبية الأخرى، تجمع بين ظاهرتين اثنتين هما التقليد والمحاكاة من جهة، والإبداع والارتجال من جهة أخرى، كما نستطيع أن نؤكد أنها فن حي ومتحرك ومتجدد.

وبعبارة أخرى فهي تراث يجمع بين الأصالة والمعاصرة، يؤكد أصالته في أشكاله وقوالبه التقليدية، ويؤكد معاصرته في الاستفادة من الأحداث والوقائع كعوامل مثيرة للإبداع والإنتاج.

وتشكل الموسيقى الشعبية المغربية جانبا ضخما من تراثنا الموسيقي التقليدي بالمغرب، وكنزا زاخرا بأغنى التركيبات اللحنية والإيقاعية.

وهي تنطوي على أهمية قصوى في سائر ميادين المعرفة، فهي مصدر غني للمؤلف الموسيقي ينهل من ينابيعه التي لا تنضب، ومرجع أمين لدارس الآداب الإنسانية، ومؤرخ العادات والطقوس الشعبية والقيم الاجتماعية، وهي صورة تعكس جانبا مهما من جوانب حياة الشعب في لحظات إبداعه، وفترات مرحه وتأجج عواطفه ...، كما تعتبر  بحق  من أعظم سمات الحياة الاجتماعية في المغرب، ومفخرة من مفاخرنا التي تدعونا إلى الاعتزاز.

فبالإضافة إلى الجانب الموسيقي الصرف، والذي تندرج تحته دراسات فنية تخصصية تتعلق بالتراث الشعري المنظوم على اختلاف اللهجات المستعملة من عربية عامية وفصيحة، وبربرية ريفية وأطلسية وصحراوية، بالإضافة إلى طبيعة التركيبات اللحنية، وأصناف الإيقاعات المتوارثة، وأنواع الآلات الموسيقية المستعملة، هناك جوانب أخرى ذات أهمية قصوى ترتبط بالرقص والحركة، وملابس القوم، وطقوسهم، وعاداتهم، ومهرجاناتهم، وحلقاتهم، وأسواقهم، وطرق تعاملهم.

وإذا كانت الفنون - بما فيها الموسيقى - مرآة للمجتمع الذي تنمو في ربوعه، فكفانا أن ننظر إلى طبيعة الأرض المغربية، وتنوع مظاهرها ما بين جبال شامخة، وهضاب ناتئة، ووهاد عميقة، وأنهر جارية، وشطآن منبسطة، وسهول فيحاء أو رمال مترامية الأطراف، لندرك بعد ذلك كم هي متنوعة ومعقدة هذه الصور الموسيقية، التي نبتت في أرض متنوعة المظاهر ما بين خصوبة وجفاف، وارتواء وجدب، وحر وقر، وشموخ وانبساط.