القدس في العهد المملوكي: مدينة تحت التهديد
شهدت مدينة القدس، بتاريخها العريق ومكانتها الدينية المقدسة، في العهد المملوكي (1250-1517م) فترات عصيبة من الاضطرابات والتحديات. فبالإضافة إلى أهميتها الروحية، كانت القدس نقطة استراتيجية في قلب بلاد الشام، مما جعلها عرضة للغزوات الخارجية والفتن الداخلية. لم تكن هذه الحوادث مجرد أحداث عابرة، بل تركت بصماتها العميقة على نسيج المدينة الاجتماعي والاقتصادي، وشكلت فهمنا لتاريخها في تلك الفترة.
أولاً: الغارات المغولية: شبح الدمار من الشرق
كانت الغارات المغولية من أخطر التهديدات التي واجهت القدس وبلاد الشام بأسرها في العهد المملوكي. لم تكن هذه الغارات مجرد حملات عسكرية، بل كانت تجسيدًا لقوة تدميرية هائلة، خلّفت وراءها الخراب والرعب أينما حلت.
1. غارة الملك غازان بن أرغون: الاجتياح الأول
في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي، وتحديدًا عام 699هـ/1299م، شن الملك غازان بن أرغون، سابع إلخانات فارس، حملة عسكرية ضخمة على بلاد الشام. كانت هذه الحملة جزءًا من محاولات المغول المتكررة لفرض سيطرتهم على المنطقة بعد هزيمتهم في عين جالوت. تميزت حملة غازان بقوتها وسرعتها، مما أتاح له السيطرة على مدن رئيسية بسرعة مذهلة.
دخل غازان دمشق واستولى عليها، ثم امتد نفوذه ليشمل غزة والقدس وبلاد الكرم (مناطق في جنوب فلسطين). يُعد هذا الاحتلال للقدس حدثًا بالغ الأهمية، حيث خضعت المدينة للحكم المغولي ولو لفترة قصيرة. يصف المؤرخون حجم النهب الذي قام به غازان وقواته. فعبارة ابن الوردي "وغنم شيئاً عظيماً" ليست مجرد وصف عابر، بل تعكس حجم الثروات والممتلكات التي سُلبت من المدن المحتلة، بما في ذلك القدس. أثرت هذه الغارة بشكل كبير على الاقتصاد المحلي، حيث فقد التجار بضائعهم والمزارعون محاصيلهم، مما أدى إلى حالة من الفقر والجوع. كما تسببت في هجرة بعض السكان خوفًا من بطش المغول.
2. غارة تيمورلنك: الفزع الذي لم يتحول لاحتلال
بعد قرن من حملة غازان، وتحديدًا في مطلع القرن الخامس عشر الميلادي (803هـ/1400م)، ظهر تهديد مغولي آخر لا يقل ضراوة، وهو تهديد تيمورلنك، القائد التتري الذي عرف ببطشه ووحشيته. على الرغم من أن تيمورلنك نجح في احتلال دمشق وتدميرها تدميرًا شبه كامل، إلا أن القدس نجت من احتلاله المباشر.
ومع ذلك، لم تسلم القدس من فزعها البالغ من وصول تيمورلنك وجيشه. وصلت أنباء الفظائع التي ارتكبها في دمشق إلى القدس بسرعة، مما أثار رعبًا عميقًا بين سكانها. في هذا السياق المتوتر، اتخذ علماء القدس خطوة استثنائية تعكس مدى يأسهم ورغبتهم في حماية مدينتهم المقدسة. اجتمع كبار العلماء واختاروا الشيخ الصالح المتعبد محمد فولاد بن عبد الله، وهو شخصية دينية مرموقة، ليكون مبعوثهم إلى تيمورلنك.
كانت المهمة التي كُلّف بها الشيخ فولاد محفوفة بالمخاطر: حمل مفاتيح الصخرة المشرفة – رمز القداسة والعظمة في القدس – وتقديمها إلى تيمورلنك. كان الهدف من هذه المبادرة هو استدرار عطف القائد المغولي، على أمل أن "يرق ويأمر بمعاملة المدينة معاملة حسنة عند احتلالها". هذه اللحظة تكشف عن عمق الإيمان والأمل لدى أهالي القدس في أن قدسية مدينتهم قد تكون شفيعًا لهم أمام جبروت تيمورلنك.
لحسن الحظ، كتب للقدس النجاة. فبينما كان الشيخ فولاد في طريقه إلى دمشق، وصله خبر جلاء تيمورلنك عنها، وعودته إلى سمراء (عاصمته). عاد الشيخ إلى القدس حاملًا الأخبار السارة، مما أدى إلى فرحة عارمة بين السكان الذين تنفسوا الصعداء بعد فترة طويلة من الخوف والترقب. هذه الحادثة تبرز دور القيادات الدينية والمجتمعية في الأزمات، وكيف يمكن للأمل أن يبدد اليأس.
ثانياً: غارات البدو: تهديد داخلي مستمر
لم تكن القدس تعاني فقط من الغزوات الخارجية، بل كانت أيضًا تحت وطأة تهديد داخلي مستمر تمثل في غارات البدو الذين كانوا يعيشون في المناطق الصحراوية المحيطة بالمدينة. كانت هذه الغارات أقل ضراوة من الغارات المغولية من حيث الحجم، لكنها كانت أكثر تكرارًا، مما أثر بشكل كبير على الأمن والاستقرار الداخلي للمدينة.
1. أسباب وتأثيرات غارات البدو
كانت غارات البدو غالبًا ما تحدث نتيجة لعدة عوامل، أبرزها:
- القحط والجفاف: كانت سنوات الجفاف وشح الأمطار تدفع البدو، الذين يعتمدون على الرعي والزراعة البسيطة، إلى البحث عن مصادر رزق بديلة، فيلجأون إلى مهاجمة المدن والقرى الغنية.
- ضعف السلطة المركزية: في بعض الفترات، كان ضعف سيطرة المماليك على المناطق النائية يشجع البدو على شن الغارات دون خوف من العقاب.
- انتشار قطاع الطرق: أدت هذه الغارات إلى تكرار الفتن وكثرة انتشار قطاع الطرق على الطرق المؤدية إلى القدس، مما عطل التجارة وحركة القوافل، وزاد من صعوبة وصول الإمدادات إلى المدينة.
يذكر المؤرخ المقريزي حادثة مهمة في عام 748هـ/1346م، توضح مدى خطورة هذه الغارات. في هذا العام، شهدت المنطقة غلاءً شديدًا وارتفاعًا غير مسبوق في أسعار المبيعات، حيث وصلت أسعار بعض السلع إلى ثلثي ثمنها الأصلي، مما أدى إلى تفاقم الأوضاع المعيشية. في ظل هذا الوضع، شن البدو غارات شديدة على القدس، وقاموا بعمليات نهب وسلب واسعة النطاق للمتاجر والمنازل.
يصف الحنبلي هذه الغارات بعبارات قوية: "فدخلوا المدينة (أي البدو) ونهبوا ما فيها على آخره إلا القليل منها وخربت أماكن... وكانت حادثة فاحشة لم يسمع بمثلها في هذه الأزمنة". هذا الوصف يؤكد حجم الدمار والنهب الذي تعرضت له المدينة، وكيف أن هذه الغارات أدت إلى خراب أماكن وتدمير ممتلكات السكان، مما ترك أثرًا نفسيًا واقتصاديًا مدمرًا.
2. محاولات مواجهة البدو والعواقب الوخيمة
لم تكن السلطات المملوكية في القدس تقف مكتوفة الأيدي أمام غارات البدو. كانت هناك محاولات لوضع حد لهذه الفوضى، لكنها لم تكن دائمًا ناجحة، وأحيانًا كانت تؤدي إلى عواقب وخيمة.
من الأمثلة البارزة على ذلك ما حدث في عام 885هـ/1480م، عندما حاول نائب القدس ناصر الدين بن أيوب أن يضع حدًا لغارات البدو. اتخذ النائب قرارًا جريئًا بالقبض على بعض أفراد من بني زيد، وهي قبيلة بدوية كانت نشطة في شن الغارات، وقام بقتلهم في محاولة لردع الآخرين وإرسال رسالة حازمة بأن الدولة لن تتسامح مع هذه الأعمال.
إلا أن رد الفعل الانتقامي من قبل البدو كان عنيفًا وغير متوقع. قامت قبائل البدو بحشد قواتها للانتقام لقتلاهم. شنوا هجومًا واسع النطاق على القدس. في مواجهة هذا الهجوم، هرب النائب ناصر الدين بن أيوب من المدينة، مما ترك القدس دون حماية.
دخل البدو المدينة وارتكبوا أعمال شغب وفوضى عارمة. قاموا بكسر أبواب السجن، مما أدى إلى فرار السجناء، ثم شرعوا في نهب المتاجر والمحلات التجارية، مما ألحق خسائر فادحة بالتجار وسكان المدينة. لم يقتصر الأمر على ذلك، بل قاموا أيضًا بقطع الطرق المؤدية إلى القدس وإيذاء الناس، مما أدى إلى حالة من الإرجاف (الخوف الشديد) والذعر بين السكان.
نتيجة لهذه الفوضى، أغلقت الأسواق والمنازل في المدينة خوفًا من النهب والاعتداء. تحولت القدس إلى مدينة منكوبة، ووصف المؤرخون هذه الحادثة بأنها "فتنة فاحشة"، للدلالة على حجم الفوضى والتخريب الذي أصاب المدينة. هذه الحادثة تسلط الضوء على هشاشة الأمن في بعض الأحيان، وكيف أن محاولات فرض السيطرة قد تؤدي إلى نتائج عكسية إذا لم يتم تقدير قوة الطرف الآخر بشكل صحيح.
خلاصة: صمود مدينة رغم التحديات
عكست الحوادث التي تعرضت لها القدس في العهد المملوكي صورة لمدينة تعيش تحت تهديد دائم، سواء من القوى الخارجية الجبارة كالمغول، أو من التحديات الداخلية المتمثلة في غارات البدو. هذه الأحداث لم تكن مجرد صفحات في كتب التاريخ، بل كانت تجارب مؤلمة شكلت وعي سكان القدس، ودفعتهم إلى الصمود والتكيف. على الرغم من الدمار والنهب والفزع، ظلت القدس مركزًا دينيًا وثقافيًا حيويًا، بفضل صمود أهلها وقياداتها الذين سعوا جاهدين للحفاظ على قدسيتها ووجودها في وجه كل التحديات.