الماهية والأحكام القانونية للوثيقة الرسمية وحجيتها في الإثبات:
تُمثل الوثيقة الرسمية حجر الزاوية في منظومة الإثبات القانوني، فهي تُعد الأداة الكتابية التي تضمن الحقوق وتحسم النزاعات بحجية قوية. يتطلب اكتساب الورقة لصفة الرسمية توفر شروط شكلية وموضوعية دقيقة، كما حددتها التشريعات المدنية وقوانين الإثبات.
1. تعريف الوثيقة الرسمية ومقوماتها:
يُقصد بالوثيقة (أو المحرر أو الورقة) الرسمية في الفقه والقانون تلك الكتابة التي تحظى بقوة الإثبات المطلقة نظرًا لصدورها عن جهة موثوقة ومختصة.
أ. التعريف القانوني والوظيفي:
تجمع التعريفات القانونية (كالمادة 10 من قانون الإثبات المصري والفصل 418 من قانون الالتزامات والعقود المغربي) والتعريفات الفقهية (كالدكتور أسامة عمر سليمان الأشقر) على أن الوثيقة الرسمية هي:
- مُحرر يثبت فيه موظف عام أو شخص مكلف بخدمة عامة (كالموثق أو كاتب الضبط) الوقائع التي تمت على يديه أو ما تلقاه من تصريحات الأطراف (ذوي الشأن).
- مُصدر بمقتضى وظيفته واختصاصه، أي أن الموظف يمارس سلطته الممنوحة له قانونًا في تحرير هذه الوثيقة.
ب. الشروط الأساسية لاكتساب صفة الرسمية:
حتى تكتسب الوثيقة الصفة الرسمية وتُنتج آثارها القانونية، يجب أن تتوافر فيها الشروط التالية:
- صدورها عن موظف مختص: يجب أن يكون مُحرر الوثيقة موظفًا عامًا أو شخصًا مكلفًا بخدمة عامة ولديه صلاحية التوثيق وكتابة هذا النوع من المحررات تحديدًا.
- احترام الاختصاص والسلطة: يجب أن يكون الموظف يعمل في حدود سلطته واختصاصه المكاني والنوعي (مثال: موثق مختص بتحرير عقود البيع في دائرة اختصاصه).
- التقيد بالأوضاع والشكل القانوني: يجب أن تُحرر الوثيقة بالشكل الذي يحدده القانون (الشروط الإجرائية، كالحضور، التوقيعات، والبيانات الإلزامية).
- التحرير في مكان العقد: يشترط في بعض التشريعات (كالقانون المغربي) أن تكون الورقة محررة في المكان الذي يخول الموظف صلاحية التوثيق فيه.
2. الحجية القانونية والقيمة الإثباتية للوثيقة الرسمية:
تُعتبر القوة الإثباتية للوثيقة الرسمية هي الفائدة الكبرى من اكتساب هذه الصفة، وتُقسم هذه القوة إلى قيمتين أساسيتين:
أ. الحجية القاطعة والملزمة:
- حجة على الغير: نص الفصل 419 من القانون المغربي على أن الورقة الرسمية تُعد حجة قاطعة على الغير في الوقائع والاتفاقات التي شهد الموظف العمومي بحصولها في محضره.
- الإثبات القوي للحقوق: تعني هذه الحجية أن المحرر الرسمي له قيمة قانونية عليا تُثبت الحقوق والتصرفات المدونة فيه، مثل وثيقة الزواج الرسمية التي تُعد حجة في الإثبات لا يمكن إنكارها أو جحودها بسهولة.
ب. حدود الحجية وطرق الطعن:
- عصمة الوقائع المشهود بها: تقتصر الحجية القاطعة على الوقائع التي عاينها الموظف بنفسه أو تلقاها مباشرة من ذوي الشأن. هذه الوقائع لا تقبل إثبات عكسها إلا من خلال طريق قانوني وحيد هو الطعن بالتزوير.
- إمكانية الطعن بالزور: الطعن بالتزوير هو الطريق الوحيد لإسقاط حجية الوثيقة الرسمية، لأنه يمس نزاهة وصحة الموظف العام القائم على تحريرها.
3. المصير القانوني للوثيقة التي تفقد صفة الرسمية:
إذا لم تتمكن الورقة من استيفاء أحد الشروط الجوهرية لاكتساب الصفة الرسمية (كأن يحررها موظف غير مختص، أو يغفل شكلًا إلزاميًا)، فإنها تُجرَّد من صفتها الرسمية.
- في هذه الحالة، تنص المادة 10 من قانون الإثبات المصري على أن الوثيقة "لا يكون لها إلا قيمة المحررات العرفية".
- الفرق بين الرسمية والعرفية: تفقد الوثيقة المطعون في صفة رسميتها حجيتها القاطعة وتتحول إلى محرر عرفي، والذي يحتاج إلى إثبات صحة توقيع الأطراف عليه، ويمكن الطعن فيه بالإنكار أو عدم العلم، بخلاف الطعن بالتزوير المخصص للمحررات الرسمية فقط.
خلاصة:
إن المحرر أو الوثيقة الرسمية هي نتاج عمل قانوني منظم، حيث تجتمع فيها صلاحية الموظف، والشكل القانوني، والإجراءات السليمة، لتُصبح بالتالي حجة قاطعة لا تُدحض إلا بطريق الطعن بالتزوير. وهذا ما يمنحها قيمتها العالية في حماية المراكز القانونية والحقوق.
