نظرية جلاكسمان للسياحة: التعريف الشامل، التأثير المزدوج، ومتطلبات التنمية المستدامة
يُعد جلاكسمان (Glucksman) رائداً فكرياً في مجال دراسات السياحة، حيث لم يقتصر دوره على وضع تعريف دقيق لها، بل طور نظرية شاملة تُعنى بتحليل العلاقة الديناميكية بين النشاط السياحي والمجتمع المضيف. يرتكز جوهر نظريته على أن السياحة قوة مزدوجة التأثير، تتطلب إدارة حكيمة لضمان تحقيق الفوائد دون المساس بالبيئة أو النسيج الاجتماعي.
1. التعريف الشامل للسياحة عند جلاكسمان:
يُقدم جلاكسمان تعريفاً واسعاً يركز على عنصر الحركة والدافع غير الدائم:
تعريف جلاكسمان: "حركة الأشخاص من مكان إقامتهم المعتاد إلى مكان آخر بهدف الترفيه أو العمل أو الدراسة أو أي غرض آخر غير إقامة دائمة."
- التوسع في التعريف: هذا التعريف يخرج عن الحصر التقليدي للسياحة في مجال الترفيه فقط. إنه يشمل الحركة السياحية لأغراض مهنية أو تعليمية أو صحية أو دينية، طالما أن الغرض منها هو مؤقت ولا يهدف إلى تغيير الإقامة الدائمة. المكوّن الحاسم هنا هو الانتقال المؤقت بعيداً عن البيئة المعتادة، مما يولد تفاعلاً اقتصادياً واجتماعياً جديداً في الوجهة المضيفة.
2. التأثيرات المزدوجة للسياحة على المجتمع المضيف:
يرى جلاكسمان أن السياحة كظاهرة اجتماعية واقتصادية تنطوي على وجهين، إيجابي وسلبي، يجب التعامل معهما بعناية.
أ. التأثيرات الإيجابية (المزايا الاقتصادية والتنموية)
ترتبط الفوائد الإيجابية للسياحة بشكل أساسي بضخ رؤوس الأموال وتحفيز النمو المحلي:
- خلق فرص العمل: تساهم السياحة في توفير فرص عمل واسعة ومتنوعة عبر سلسلة القيمة السياحية. لا يقتصر ذلك على قطاعات الإقامة (الفنادق) والنقل (الرحلات)، بل يمتد إلى قطاعات داعمة كـ الطعام والشراب، والترفيه، والخدمات اليدوية، مما يساهم في خفض معدلات البطالة.
- زيادة الإيرادات الحكومية: تُغذي السياحة ميزانية الدولة والمجتمعات المحلية من خلال قنوات مالية مباشرة وغير مباشرة، تشمل الضرائب (على المبيعات والأرباح)، والرسوم المختلفة، والرسوم السياحية المفروضة على الخدمات والمنتجات.
تعزيز التنمية الاقتصادية الشاملة: تعمل السياحة كرافعة اقتصادية من خلال:
- زيادة الطلب على السلع والخدمات المحلية والمنتجات الحرفية.
- تحسين البنية التحتية (كالطرق والمطارات وشبكات الاتصالات) التي تخدم السياح وتعود بالنفع على السكان المحليين.
- جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة في مشاريع الفنادق والمنتجعات والخدمات المرافقة.
ب. التأثيرات السلبية (المخاطر البيئية والاجتماعية)
يحذر جلاكسمان من أن التنمية السياحية غير المنظمة يمكن أن تسبب أضراراً لا تُعوض:
- الآثار البيئية وتدهور الموارد: يمكن أن تؤدي الكثافة السياحية إلى تلوث الهواء والماء، وإزالة الغابات لبناء المرافق، واستغلال مفرط للموارد الطبيعية النادرة (مثل المياه والطاقة) على حساب السكان المحليين والبيئة المحيطة.
- الآثار الاجتماعية وتدمير الثقافة: تسبب السياحة السريعة والمتزايدة ضغوطاً اجتماعية وثقافية، مثل:
- تدمير أو تشويه الثقافة المحلية نتيجة التنميط أو التجارة المفرطة للموروثات.
- انتشار الجريمة أو الظواهر الاجتماعية السلبية نتيجة الاحتكاك الثقافي غير المنظم أو تغير القيم.
- زيادة الضغوط على الموارد الاجتماعية (كالطاقة، الرعاية الصحية، والإسكان)، ما يؤدي لرفع الأسعار محلياً.
3. متطلبات التنمية السياحية المستدامة والمسؤولة:
بناءً على التحديات المذكورة، يرى جلاكسمان أن السياحة يجب أن تُطور وتُنظَّم بطريقة مستدامة لضمان أن تكون "إيجابية للمجتمع". وتحقيق هذه الاستدامة يتطلب التركيز على ما يلي:
أ. التركيز على السياحة البيئية (Ecotourism)
يُركز هذا النوع من السياحة على الحفاظ على البيئة الطبيعية واستدامتها. إنه يسعى إلى توفير تجربة تعليمية للسياح تُعزز لديهم الوعي البيئي والتقدير للأنظمة البيولوجية، مع ضمان أن تكون الأنشطة ذات تأثير بيئي منخفض.
ب. دعم السياحة المحلية (Community-Based Tourism)
يُشدد على أهمية السياحة التي تُسهم مباشرة في دعم المجتمعات المحلية اقتصادياً واجتماعياً. هذا يضمن توزيعاً عادلاً للدخل ويُقلل من الآثار السلبية للسياحة على البيئة، حيث يكون السكان المحليون هم الحارس الأول لمواردهم وثقافتهم.
ج. تعزيز السياحة المسؤولة (Responsible Tourism)
تتجاوز السياحة المسؤولة مجرد الحفاظ على البيئة لتشمل الالتزام الأخلاقي تجاه البيئة والمجتمع المحلي. يعني ذلك:
- احترام الثقافة والتقاليد المحلية.
- المساهمة الإيجابية في الاقتصاد المحلي.
- الحد الأدنى من التأثير السلبي على البيئة والموارد.
باختصار، يرى جلاكسمان أن السياحة إما أن تكون قوة دافعة للتنمية أو مصدراً للتدهور، ويكمن مفتاح النجاح في تبني مناهج التخطيط المستدام والمسؤول الذي يوازن بين الأرباح الاقتصادية وحماية الكنز الثقافي والبيئي.