بداية ظهور الرواية التاريخية العربية.. امتداد للقصة التاريخية القديمة كقصة عنترة والسيرة الهلالية وسيرة الأميرة ذات الهمة وسيرة الظاهر بيبرس

اختلفت آراء النقاد المحدثين في جذور الرواية التاريخية العربية، وانقسموا في هذا الإطار إلى ثلاثة اتجاهات:

- الأول: يرى أنّ القصة التاريخية "كانت تطوراً طبيعياً عن التراث العربي القصصي".

- أمّا الاتجاه الثاني، فإنّه يقرر بـ"أن القصة التاريخية الحديثة لم تكن امتداداً للقصّة التاريخية القديمة كقصّة عنترة والسيرة الهلالية وسيرة الأميرة ذات الهمّة وسيرة الظاهر بيبرس وغيرها، فقد زال هذا النوع من الأدب الذي كان صدى للبيئة التي وجد فيها...، وما هي إلاّ فرع من فروع الثقافة التي جاءتنا عن الغرب في النهضة الحديثة.".

- ويرى أصحاب الاتجاه الثالث أن الرواية التاريخية نشأت نتيجة مزاوجة بين الموروث من التراث العربي القديم وبين ما جاءنا من الغرب حيث "تمخض الوعي عن حركة مزاوجة كبرى بين القصص القومي القديم بألوانه التقليدية والعصرية والشعبية والتجارية وبين المثل العليا الغربية والإنسانية للقصة، ونتج عن حركة المزاوجة انقسام القصص الفني إلى قصص تاريخي طويل وقصير إلى قصص اجتماعي طويل وقصير".

وأرى أنّ للعرب إرثهم القصصي الشعبي كالسير والتخيلات القصصية والشعبية والقصص الشعري، فلا أحد يستطيع أن ينكر هذا الضرب من الفن القديم . وطبيعة الشعوب أنّ بعضها يفيد من بعض، فالأوروبيون مثلاً في العصر الحديث أفادوا من قصص ألف ليلة وليلة ووظفوها في أعمالهم القصصية ، وأنتجوا فناً متقدماً من الأدب تجاوز المنثور إلى الممثل والمرئي، فالحال نفسه عند العرب الذين أفادوا من الخطوات الأوروبية في الرواية الحديثة، فنسجوا على منوالها أدباً جديداً يحاكي الأدب الأوروبي عرف باسم الرواية التاريخية العربية.

ويمثل سليم البستاني وجورجي زيدان وأنطون فرح ويعقوب صروف وأمين ناصر وغيرهم الجيل الأول من كتاب القصة والرواية التاريخية، وهو الجيل الذي انصرف جهده إلى التاريخ في سياق حكايات تكون أكثر تسلية وتشويقاً للقارئ، ثم تبعهم الجيل الثاني؛ جيل الذين "استلهموا لحظات ومواقف قديمة من التاريخ العربي والإسلامي، وكان هذا الاستلهام للأشكال والموضوعات التراثية والوطنية والاجتماعية والأخلاقية والعاطفية تجليات أدبية ـ بمستويات أدبية ودلالية مختلفة ـ لمحاولات  إبراز الذات القومية في مواجهة الغرب".

واستلهم بعض الكتاب هذا التراث في رواياتهم بهدف بعث أمجاد الماضي وبطولاته، ومن هؤلاء عادل كامل ونجيب محفوظ وعبدالحميد جودة السحّار ومحمد فريد أبو حديد وعلي أحمد باكثير وعلي الجارم، وقد صدرت روايات هؤلاء في الأربعينات".

وعلى الرغم من هذا العدد الوافر من الروائيين الذين كتبوا الرواية التاريخية في فترة متقدمة، إلاّ أنّ المنحى التاريخي يحتاج من القاص أو الروائي إلى وعي عميق ومعرفة شاملة بالحياة الاجتماعية خلال الفترة التي يؤرخ لها فنياً،وعلى ذلك جاءت أعمال باكثير التاريخية، فيها نوع ملموس من التوازن بين متطلبات الحياة الاجتماعية والفنية، وتطلعه الجاد نحو تأصيل فني للرواية التاريخية الإسلامية، وبذلك جاء الحدث التاريخي في رواياته مرتبطاً بالرؤية الاجتماعية التي كانت تنطلق من التاريخ وتميل به إلى معالجة الواقع.

ومن ثم نستطيع القول: إنّ الرواية الفنية التي ظهرت مؤخراً في البيئة العربية قد تفرعت وتعددت ألوانها، يظهر هذا في التصنيف الذي أعده الدكتور محمد مندور للاتجاه القصصي الحديث عند العرب؛ بادئاً بأول نوع تفرع عن القصة الفنية الحديثة عند العرب وهو "الاتجاه التاريخي الذي ابتدأه جورجي زيدان ،وجاء بعده فريد أبو حديد  فجدد في معناه وحدد من وسائله وأوشك أن يخلقه خلقاً جديداً في "الملك الضليل"و"زنوبيا"، وتبعه في ذلك شاب ينبعث منه الأمل وهو علي أحمد باكثير كاتب "أخناتون" و"سلامة القس" و"جهاد " التي نالت إحدى جوائز وزارة المعارف، أما القصة التحليلية فتمثلها "سارة " للعقّاد، أما أدب الفكرة الذي يصدر عنه توفيق الحكيم، ومنحى طه حسين الذي يتميز بموسيقاه وتدفق عواطفه، وأخيراً لدينا الأدب الواقعي الذي برع فيه محمود تيمور".

وتعد الفترة "مابين 1939 ـ 1952 هي الفترة التي بدأ فيها التحول الحقيقي نحو اعتبار الرواية فناً يمكن أن تتوفر جهود الكاتب عليه، وفيها اتضحت معالم اتجاهات فنية وموضوعية، بحيث لم يعد الكاتب يعتمد على مغامراته الفردية، وإنما يستند إلى تجارب سبقته على الطريق وإلى أسس ينطلق منها معاصروه من الكتّاب، فالاتجاه نحو استلهام التاريخ أصبح يشكل معلماً واضحاً" ، فاهتم الأدباء والكتّاب بكتابة الرواية التاريخية التي تعالج القضايا المعاصرة في الساحة العربية. وهذه الفترة هي فترة النضج للرواية التاريخية، ولا أقصد التقليل من شأن الروايات التاريخية التي كتبت فيما بعد ولكنني أحسب أنّها جاءت صدى لروايات تلك الفترة.

وإبان تلك الفترة ظهر تيّاران نقديّان:
- تيّار يدعو إلى التجديد والأخذ بأسباب الحضارة الأوروبية في جميع العلوم الأدبية والعلمية.
- تيّار يدعو إلى المحافظة على القديم وخاصّة التراث العربي الموروث، وكانت وسيلة أصحاب هذا التيار "العمل على إحياء تراث العروبة في الدين والعلم والفن".

فكان من الطبيعي أن يتجه أنصار التيار الثاني إلى التاريخ ليختاروا منه ما يصلح أن يكون مادة لقصصهم لخدمة أهداف تيارهم.
ولعل هذا يفسر لنا سبب إقبال الأدباء ذوي الطابع الديني غالباً على كتابة القصّة التاريخية.

والنّاظر في تلك الحقبة الزمنية التي انبثقت منها الرواية التاريخية يمكنه أن يعيد ازدهار الرواية التاريخية إلى عاملين:  

- أولاً: ارتباط ذلك القصص بالحركات الثورية الإسلامية منها والقومية، إذ إنّ كتابتها وقراءتها كانت نوعاً من مقاومة الاستعمار، وكان يلجأ إليها الأديب تعبيراً عن شعوره القومي الذي يخفيه خشية من بطش المحتل.

- ثانياً: وجود هذا النوع من القصص كان صدى للنزعة العامّة للعصر حينذاك التي كانت تدعو إلى إحياء التراث الإسلامي والمحافظة عليه لمواجهة التيارات الأوروبية الوافدة ـ كما بينت آنفاً ـ.

من هنا نستطيع التأكيد بأنّ الرواية التاريخية في تلك الفترة بالذات استطاعت أن تعبر عن التيارات الفكرية التي كان يموج فيها الواقع، وتفرضها الأحوال المعيشية والظروف السياسية والاقتصادية.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال