إنّ الاعتماد على التعاريف المخصصة لكل إسناد نظري يبحث في علاقة الرواية بالتاريخ من شأنه أن يقود الباحث نحو إعادة التفكير في إشكال كبير يخص علاقة الأدب بالتاريخ وهذا يجعلنا نطرح عدّة أسئلة من مثل :هل الرواية التاريخية هي التي تعتمد الحدث التاريخي مرجعيّة للحدث الروائي؟
وبالتالي فإنّ في هذه الحالة مرجعيتين :مرجعية حقيقية متّصلة بالحدث التاريخي ،ومرجعية تخيلية مقترنة بالحدث الروائي.
وهذا يصل بنا إلى سؤال هام: كيف يشتغل الحدث التاريخي ضمن الحدث الروائي؟
أي كيف يشتغل الحقيقي ضمن التخييلي؟وسأحاول هنا الوصول للإجابة عن هذه الأسئلة.
على الرغم من حبّ الإنسان الشديد للماضي بكل ما فيه من تفاصيل وخبرات ـ فالماضي ملك التاريخ، والتاريخ حافظه ـ ،نجده غالباً ما يعزف عن قراءة كتب التاريخ، ويمل الحياة بين صفحات هذه المراجع المملوءة بالحشود الهائلة من الأحداث المملة والأخبار المتشابهة، لاسيّما أنّ أكثر المؤرخين قد يجيدون جمع الأخبار ومقارنتها والاستنتاج منها، إلاّ أنّهم يقومون بهذا في إطار علمي جاف،ويعرضونها عرضاً قد يكون مملاًّ يغري النّاس بالزهد في كتب التاريخ والوقوف على حوادثه وأخباره.
والعنصر الأدبي لازم في كتابة التاريخ، فإذا أبعد من ناحية احتال على الدخول من منفذ آخر.
والشعور بالحاجة إلى هذا العنصر الأدبي هو الذي ساعد على ميلاد الرواية التاريخية، لأنّ التاريخ يبعث في النفس البشرية التوق للماضي وتقليده في جوانب الخير والحذر من الانزلاق في ثغرات البشرية التليدة والتاريخ حين يصبح بأحداثه وشخصيّاته مادة للرواية ،فإنّه يصير بعثاً كاملاً للماضي، يرتبط فيه الحاضر بالماضي الخالد في رؤية فنيّة شاملة، فيها من الفن روعة الخيال وجاذبية الذكرى، ومن التاريخ صدق الحقيقة.
ولعلّ هذا يفسر جاذبيّة الرواية التاريخية التي تحاول أن ترد الحاضر لشيء كان موجوداً فعلاً، فالقارئ وهو يقرأ الرواية التاريخية يشعر أنّ ما يقرؤه ليس من صنع خيال المؤلّف، فالخيال وظيفته هنا هو تشكيل الصورة التي كانت عليها الحياة في العهد القديم ورسمها دون تحريف أو زيادة أونقصان، بيد أنّ الأديب غيّر في مجريات الحدث التاريخي لينسجم البناء الفنّي مع ما يدور في خلده ووجدانه.
وليصل الأديب في كتابة الرواية التاريخية إلى هذا الغرض من الفائدة والمتعة عليه أن يقرأ التاريخ "قراءة تعمر نفسه بأحداثها وتمتلئ مشاعره بمواقفها، وسوف يتأثر بها تأثراً يملك عليه نفسه ويستولي على خاطره، وبذلك يندفع للترجمة عن مشاعره والتعبير عن أحاسيسه ،ويصوّر لك نفسيته حينما لامسته تلك الشرارة من الذكرى مما يجعل إنتاجه صورة صادقة من نفسه وفكره وترجمة عن أحاسيسه وعواطفه حيال تلك الحادثة أو البطل الذي عمر نفسه وملأ فؤاده وملك عليه خاطره".
فالتاريخ في صورته المعروفة ما هو إلاّ حقائق مجرّدة لها وجود محدد، وقد أعدت سلفاً وبمجرد دخول هذه الحقائق التاريخية في إطار العمل الأدبي يتحول العنصر التاريخي إلى عنصرأدبي. وفيما يتعلّق بالتزام الروائي حقائق التاريخ، يقول لوكاتش: "يجب أن تكون الرواية أمينة للتاريخ ، بالرغم من بطلها المبتدع وحبكتها المتخيلة".
والناقد هنا يرى أمرين، يتمثل الأول في ضرورة الالتزام بحقائق التاريخ الكبرى دونما تغيير أو تزييف، فيما يقوم الأمر الثاني على جواز استيعاب الرواية التاريخية للبطل الروائي غير الحقيقي، والحبكة الفنية المتخيلة على خلفية صيرورة الأحداث التاريخية الحقيقية.
والروائي في استلهامه للتاريخ يعيد ترتيب الأشياء وتوزيع الأدوار كما يريد، تأصيلاً لرؤيته التي يقيم بناءها في معماره الروائي الجديد.
والروائي في انتخابه للأحداث التاريخية التي تشد نسيج النص ببنيته العميقة والشكلية المتماهيتين "يقدر المسافات، ويشكل الألوان، ويصور الأماكن والحالات، ويركب الحوارات، ويبني المشاهد، ويتعمق في الأمزجة، ويفسر المواقف، ويصوغ ردود الفعل، وينزل إلى حيث تمفصلات المجتمع في مكان وزمان معينين". ليخلق بعد ذلك نصاً إبداعياً نواته وحدة التجربة الإنسانية، بمعنى أنّ ثمة أشياء تتجاوز المكان والزمان لتكون الجوهري في الإنسان.
التسميات
نثر عربي حديث
