حنا مينة البحّار المجدّد في الرواية العربية.. استخدام التداعي ممتزجًا بالتذكر ومتداخلاً مع الحوار الخارجي في المواقف التي تعاني فيها الشخصية من اضطراب شديد

وُلد الكاتب الروائي السوري الكبير حنا مينة في مدينة اللاذقية عام 1924 في حي "المستنقع" حيث كانت نشأته الأولى في المراكب، واحترف العمل كحمّال في الميناء بعد حصوله على الشهادة الابتدائية، وعمل في كل المجالات ومارس مهنة الحلاقة قبل دخوله معترك الأدب وقبل أن يصبح أوسع الكتّاب انتشارًا مع نجيب محفوظ. لقد اختزن في أعماق الذاكرة صورًا مع الفقر والحظر والتشرّد.

كتب ثلاثين رواية، خصّص ثماني روايات منها للبحر الذي عشقه وتماهى معه، فهو من روّاد البحر في الأدب العربي ورواياته ومعظم أعماله تتفجر بمياه موجهِ الصاخب كما يقول، ومن لُجّه وعواصفه كتب روايات تتحدى الكوارث.

لقد فتح  حنا مينة طريقه بأظفاره، ولم يكن يرغب يومًا في الصعود، لكنه صعد وتلك معجزة الأقدار على حد تعبيره. من أشهر رواياته "الشراع والعاصفة"، "الياطر"، "بقايا صور" و"الشمس في يوم غائم" وغيرها.

ويقول حنا مينة في إحدى المقابلات انه رغم قسوة الحياة، فانه استطاع أن يروّضها، فهو لا يخاف الحياة لأنه في رأيه ليس هناك شيء مخيف في الحياة، فالمرض والكوارث مقدّرة على الانسان، وهو يشبّه الحياة بامرأة، فهي تحب الذين لا يخافونها، بل الذين يجعلونها تخاف منهم.

لقد اشتغل حلاقًا مدة ثماني سنوات في دكانٍ صغير في مدينة اللاذقية أسماه "صالون الزهور"، ثم أغلق الدكان وسافر للبحث عن عمل، وهو يعيش الصبر بكبرياء على أمل ان يصل الى ما يريد، وبالتالي فانه يحذّرنا من استعجال الأمور لأن ذلك هو الخطر، فاذا استعجلنا الانتصار قتلناه كما يقول، فبعد الصبر يكون الانتصار شريطة أن يكون الصبر بكبرياء ودون معاكسة الظروف. إنه ينصح الناس ان يحذروا الانكسار من الداخل لأنهم اذا انكسروا من الداخل صاروا أذلاء.

وهو يصف نفسه بأنه "للنائباتِ حمولُ" كما قال أبو الطيب المتنبي. لقد اضطر حنا مينة أن يغادر سوريا الى خارج وطنه عام 1959 لاتهامه بالشيوعية، وبقي هناك 8 سنوات لم يكتب في الغربة شيئًا لأن الغربة كانت شاقة، وبعدها عاد الى الوطن فقيرًا، وكان وطنه يعاني من هزيمة 1967.

أما انطلاقته الحقيقية في عالم الأدب، فكانت عام 1969، وهو يخبرنا أن رواية "الشراع والعاصفة" هي التي كرّسته روائيًا حقيقيًا عربيًا أصيلاً.

إنّ حنا مينة هو كاتب الكفاح والفرح، وعشقه الاول والأخير للبحر، فهو يقول عن نفسه انه هو البحر، فقد رأى الموت في البحر، وحين  نزل الى البر رأى البحر وهو سائر في العواصف.

لقد ظلّت الكتابة عن البحر بعيدة في الأدب العربي، ولم يغامر كتّاب  العربية في الكتابة عنه لأن الحياة لم تدفعهم في دروب المغامرة، فحنا مينة  لا يكتب الا ما عاشه، إذ أنّ المغامرة جاءت اليه ولم يذهب هو اليها، فالفقر هو الذي لاحقه على حد قوله.

إنّ الأدباء العرب - في رأيهِ - يحبون المقعد الوثير وهم يكتبون، أما هو فقد طرق مواضيع  لم يطرقها أي روائي عربي غيره من قبل، فلا يوجد لديهم كتابة عن البحر، الجبل، الغابة، الثلج، كما لا يوجد شيء عن الحياة والموت تقريبًا، ومن خلال تجربته هذه، فانه يكون قد جدّد في الرواية العربية لا سيما أنه من عشقه للبحر قد جاءت ثلاثية البحر: "حكاية بحّار"، "المرفأ البعيد" و"الدقل"، وقبلها كان قد كتب "الشراع والعاصفة" والتي فيها تتجلّى ذروة الصراع مع البحر، فالشراع هناك يصارع البحر حيث يرى حنا مينة أن الانسان جبّار وأشجع من البحر وهو سر الوجود وأشجع ما في الوجود.

يقول حنا مينة ان جميع الناس، في جميع الظروف، ينشدون التغيير، بأشكال مختلفة ودرجات مختلفة، وفي معالجته للناس، يحاول ان يكون ترجمانًا لذواتهم من خلال ذاته، ويحاول رسمهم في واقعهم، وتطلعاتهم وفي الرغبات المضمرة في نفوسهم. ويضيف قائلاً: "إنّ لدى الناس حبًا في التغيير يتجاوز ما نرصده فيهم، فالتغيير مثل كلمة الحرية. كل شيء في الكون، طبيعة ومجتمعًا، يتوق الى التبدّل والتغيير، ويمل واقعه، حتى لو كان مريحًا، فكيف اذا كان سيئًا؟" (حنا مينة، هواجس في التجربة الروائية، بيروت 1982).

ونحن نرى أن الأم، في رواية "بقايا صور"، تريد أن يتغير وضع العائلة، ويدرس أبناؤها، وزكريا المرسنلي، في "الياطر" يريد أن يتغير الوضع ويعود الى المدينة آمنًا، ثم يريد برغم الجنس الذي يمارسه مع شكيبة، ان تحبه شكيبة، لا لأنه فحل، بل لأنه انسان، عرفت كيف تفجّر انسانيته خلال وجوده في الغابة. الطروسي في "الشراع والعاصفة"، يلعن وجوده على البر، وينتظر بصبر ذاهب أن يأتي اليوم الذي يبحر فيه، وهكذا كل الأبطال في كل الروايات.. وهم لا يرددون كلمة التغيير لكنهم يعيشونها ويعبّرون عنها بسلوكياتهم.

ومن هنا يتّضح أن حنا مينة قد اهتم بالوضع النفسي للانسان في قلب مأساته بخلاف الأدب الواقعي في الخمسينيات الذي اهتم بما يسمى "المآسي الاجتماعية".

ويرى حنا مينة أن الانسان ليس مسحوقًا، ولا مدمرًا، ومهما يكن فقره او جهله فهو قادر أن ينهض من الحضيض، ويتحدى الظلم ويمارس الفرح والكفاح.

ولا ينكر حنا مينة أنه واقعي رومانتيكي، ففي رواية  "الشمس في يوم غائم" نرى أنها تمزج بين الرمز والاسطورة والواقعية. فقد كُتبت هذه الرواية بلغة شاعرية حتى خلط النقّاد بين الكلام العادي والمزامير كما فعل جبران في "النبيّ".

ورواية حنا مينة هذه كُتبت لتبقى ثريةً بين رواياته في نسيجها اللغوي والسردي وأسلوبها المميّز، فرقصة الخنجر فيها هي رمز، وهذا مثال على ان الواقعية في الأدب تستوعب جميع المدارس: التعبيرية، التجريدية، الرومانسية والاسطورية وكل المدارس، فلا يوجد عمل من دون واقع، وكل شيء يخرج من الواقع، والواقع في الابداع يسير واقعًا فنيًا وهذا هو الفن.

لقد كان حنا مينة أمينًا لتقاليد البحر وتقاليد البحّارة، ففي رواية "حكاية بحّار" أفرد صفحات للكلام على "الريس البحري" على قائد مجموعة الرجال البحّارة، على الملك في مملكة عائمة على الماء، وفي رسم صفاته بالكلمات، صفات الأمارة، صفات الجسارة، صفات الحاكم بأمره، والذي يعرف أنه يواجه، دون بحارته، الموت في كل رحلة، وانه منذ عُمّد ريسًا نُذر للموت، لأن من شرف البحر، ناهيك بأحكامه، أن يظل الربان على ظهر مركبه أو باخرته حتى اللحظة الاخيرة، وبعد ان ينزل منها الركّاب والبحارة، وكثيرًا ما يغرق معها.

وفي هذا الصدد يقول حنا مينة "إنّ الشاعرية، هنا، ضرورية، فأمام العاصفة، والمدى المائي الأزرق، والموت المجيد، والحياة الشجاعة، تنظم الكلمات نشيدًا ترفعه الارض الى السماء في كل لحظة". (حنا مينة، كيف حملت القلم، منشورات دار الآداب، بيروت 1986).

يشير حنا مينة الى انه لا يقصد الواقعية أو الرومانتيكية تقصدًا في كتابته، فهو يعتقد أنه خالق، ومخلوقاته الأدبية ذات أمزجة وخروجات على المألوف، فمن السمات التي يتكرر وجودها لدى الكثير من أبطال رواياته الكرم والتحدي والتصدي والجرأة، والشهامة.

ونلحظ هذه السمات في سلوك فارس بطل رواية "المصابيح الزرق" الذي شارك في معركة الخبز ضد المحتكر حسن حلاوة، والطروسي الذي أبت عليه أخلاقه أن يُهان بحّار عربي في ميناء كونستانزا فعارك الطليان  وتغلّب عليهم، وسُجن ("الشراع والعاصفة").

وتصدّى صالح خروم للاتراك منتصرًا للفقراء من أهل الحي ("حكاية بحّار")، ودخل مفيد في معركة مع الفرنسيين، لأن نفسه الأبية لم ترض له السكوت على اهانتهم للعرب ("نهاية رجل شجاع")، وقد دخل هؤلاء السجن جميعًا نتيجةً لتصديهم للظلم.

ويعلّق حنا مينة على الواقعية الرومانتيكية في رواياته قائلا: "إن حركة الواقع، في ثورتها الدائمة، هي أبرز وجوه الرومانتيكية  في رواياتي. أشخاصي ليسوا عاديين، في السلب أو الايجاب، العادية مقتولة فيهم، والطبيعة منفية، وكل واقعيتي تنهض على مهاد واقعي،  في غضب الطبيعة، وعصف الريح، والمطر، وحمحمة الموج، وفي هذا الروح الحنون الذي يجعل من المرسنلي نصف وحش ونصف انسان، أو في فروسية الطروسي الذي يطارد العاصفة، أو في نزول صالح حزوم الى أعماق الباخرة للحصول على ثمن الخبز للبحارة والعمال في أزمة الثلاثينيات العالمية.

وحتى الحب، في عنفوانه، في اندفاعاته، في تلفعه بغلالة القمر، تم تمزيقها لاظهار ما في عريهِ من نصاعة ثلجية، أو في اضطراب سعيد حزوم، وجنونه، وإبحاره، ومغامراته، أو عودته الى البحر للبحث عن جثة والده، ثم في الرمز والاسطورة، وحب الأشياء الغامر، وفي تقبيل الموج لحصى الشاطئ الذي وحده، في حركته الأبدية، قادر على تدوير الحصى وتمليسها وتحويلها من احجار الى رقاق كريمة.

إنّ في ذلك رومانتيكية تصرخ: أنا هنا، أنا الرومانتيكية، أنا شجرة الخير والشر في القرن العشرين". (حنا مينة، كيف حملت القلم). لقد صرّح حنا مينة في احدى المقابلات انه كاتب الفرح والكفاح وترويض الحياة والنساء، لكنه لم يجد المرأة التي تروّضه خلال الحياة. لقد روّض هو النساء، لكنه لم يتروّض وهذا نقص في تجربته على حد تعبيره.

ومن حيث أنه يتمتع بشخصية وسمات البحّار، فقد كتب عن النساء العاهرات، وتفسيره لذلك ان البحّار يبقى شهرين او أكثر ضائعًا في البحر، وحينما ينزل الى البرّ يبحث عن خمّارة أو امرأة، وفي هذا الاتجاه الروائي كان أمينًا لتقاليد البحر والبحارة.

وعلى هذا الأساس فان أبطال الروايات قد جمعهم ذوقهم الذي يلتقي عند حب المرأة البيضاء الناصعة الممتلئة، وتلذذهم بالخمر والتبغ والقهوة، ويتسم حب هؤلاء الأبطال  بالحسيّة، ولم يرسم من بينهم من أحب المرأة حبًا عذريًا.

كما أن واحدًا من الأبطال لم يقم على حب امرأة واحدة مخلصًا لها باستثناء ديمتريو في رواية "مأساة ديمتريو". فالطروسي أحب نجوى وظلّ متعلقًا بماريا، وكرم المجاهدي أحب إيرجكا وبيروشكا في الوقت ذاته وهناك أمثلة كثيرة أخرى في الروايات.

فالتعددية في حب المرأة سمة اخرى تجمع هؤلاء الأبطال. ومن هنا نرى أن المرأة تشكّل محورًا مهمًا من محاور حياة البطل الا انها ليست المحور الأساسي فيها، ويتفق أبطال الروايات جميعهم في مواقفهم من المرأة أمًا فهي نبع العطاء، وهي مصدر الحماية مقابل الأب الذي قلّما كان محبوبًا، لمعاملته القاسية للبطل أو لأمه.

أما المرأة زوجة، فهي لا تظهر كثيرًا في الروايات لان أغلب أبطالها من العُزّاب مع ان الطروسي بطل "الشراع والعاصفة" ومفيد بطل "نهاية رجل شجاع" تزوجا قرب  نهاية الرواية من فقيرتين اضطرتهما الظروف الى ممارسة البغاء.

ونلاحظ في معظم الروايات أن وجود الزوجة، أو الخطيبة، أو الحبيبة لا يقف عائقًا في وجه البطل عن إقامة علاقة مع امرأة أخرى، فقدأحبّ فارس ("المصابيح الزرق") رندة في حين كان يقيم فيه علاقة جنسية مع زوجة الضابط، وتزوج الطروسي بام حسن وظلّ مُغرمًا بماريا ("الشراع والعاصفة")، واتخذ صالح حزوم من كاترين عشيقة له في الوقت الذي كانت فيه زوجته على قيد الحياة ("حكاية بحّار")، وكان جهاد يراسل حبيبته مخبرًا اياها عن تطوّر مرض ابنته متجاهلاً امها ("حمامة زرقاء في السحب").

إنّ أكثر شخصيات الروايات شهرةً هي شخصية الطروسي في "الشراع والعاصفة"، وقد رسمت هذه الشخصية من خلال عناصر وتقنيات الأسلوب التصويري فبرزت من خلال سلوكها وحركتها وتأثرها  بالاحداث وصنعها لها.

ونحن كقرّاء، أول ما نلتقي الطروسي وهو يتحرك على الشاطئ ويجلس على الصخور غارقًا في تأملاته، ومن خلال حركته وأقواله وصراعه مع القوى الاجتماعية الممثلة لمعركته مع صالح برّو، أحد أزلام محتكر النقل في الميناء، يتكشف أمامنا وينمو مع الحدث.

ومن مشهد عراكه مع ابن برّو نستخلص أن الطروسي يتمتع بصفات رفيعة كالإباء، ونبل السلوك لما له من أخلاق الفارس الذي يأبى مواصلة ضرب غريمه ما دام ملقى على الأرض، كما يمتاز بكرهه للنفاق، ويتّصف ببعد النظر، وذلك حين أخبر أبا محمد بأن التحرش سيستمر.

ونرى أننا نتعرّف على سمات الطروسي من خلال الحركة والسلوك والتفاعل مع الأحداث لا من خلال الوصف أو التقرير.
ويدل تدخله من اجل العامل المريض على اهتمامه بالآخرين ورفضه للقهر، وانتصاره للكرامة الانسانية.
إنّ وجوده في المقهى يمكّنه من التفاعل مع الناس، ويتبين له  الاختلاف بين حياة البرّ وحياة البحر.

وقد كان يستمع هناك مضطرًا للمحاورات التي كانت تدور بين مؤيدي الحلفاء ومؤيدي المانيا متسائلا عن سر حماستهم السياسية، وأخذ يعجب بإذاعة برلين ويقتنع بكلام الاستاذ كامل. وهنا يبرز دور المكان في تشكيل وعي هذه الشخصية وتغيير موقفها.

وتتكامل صورة الطروسي أمامنا كقرّاء في حادث انقاذ الطروسي لمركب الرحموني وهذا الحادث يمثّل الصراع ضد العالم الطبيعي.

وهذا التصوير المشهدي للحدث يعرّفنا أن الطروسي خبير بالأنواء الجوية، وأنه مهتم بالمبحرين وسط النوء دليل على اهتمامه بالآخرين، كما تتكشف لدينا سمات الزعامة والقيادة لديه، بالاضافة الى مشاعره الانسانية النبيلة التي تظهر بجلاء حين يصرّ على إنقاذ مركب الرحموني ليدخل الفرحة الى قلبه "فأية فرحة سيستشعرها وهو يرى شختورته تعود الى الشاطئ" ("الشراع والعاصفة").

إن كل هذه الأمور تؤكد ما لدى الطروسي من حسن تخطيط وادارة، وقد ظهر ذلك حين أمر باعادة زورق الانقاذ، وحين رتّب قيادة دفته. أما حينما عاد بالمركب المنكوب الى الشاطئ، فاننا نسمعه يقول مفكرًا، "ماذا قال البحّارة؟ وهل عرفت أم حسن بالأمر"، وهذا مؤشر على الانقلاب الواضع في شخصيته، فتلك العبارة تبيّن بوضوح ارتباط الطروسي بالبرّ بما فيه علاقات اجتماعية وأسرية.

وقد أدى هذا الحدث الى اعتراف أبي رشيد بمكانته: "مثلك تكون  البحّارة يا أبا زهدي حيّاك الله". ونتيجةً لعمله هذا تحقق ما كان يصبو اليه منذ زمن طويل، وهو أن يصبح من أصحاب المراكب، حين عرض عليه الرحموني مشاركته. وبهذا يعود الطروسي الى البحر بفضل فعله وتضحيته من أجل الآخرين وليس بطريق الصدفة، وهكذا يحقق الطروسي هدفه بارادته وكفاحه.

وتكشف احداث الرواية عن اهتمام الطروسي أيضًا بالقضية الوطنية وذلك من خلال حادثة نقل الأسلحة ليلا للمجاهدين حيث تظهر هذه الحادثة تفاعله مع قضية الوطن وسعة تجربته ومهارته في التخطيط.

ويظهر اهتمام الطروسي بالبر واهله حين يتردّد في الابحار على ظهر مركبه الجديد، ولكنه يسافر عندما أدرك ان السفر لن يقصيه او يبعده عن قضايا شعبه وهمومه كما أكد له ذلك المثقف الثوري الاستاذ كامل.

لقد قال حنا مينة عن رواية "الشراع والعاصفة" انها كانت قصيدة بحرية على فم شاعر بحري.
أما على صعيد الرمز ووفق السياق التاريخي، فان الكاتب يستطرد قائلا لمحاوره في مقابلة ما إن الطروسي، باعتباره صاحب "المنصورة" التي غرقت، كان بورجوازيًا صغيرًا، يملك كل تطلع البرجوازي الصغير الى الملكية، المركب، من جديد، وهو يسعى الى الانتصار على البحر.

فالبرجوازية الصغيرة كانت تتطلع، اجتماعيًا، الى الانتصار على الاقطاع والرأسمالية ذات الانتاج الكولونيالي. وروح المغامرة في اقتحام البحر، هو روح المغامرة في اقتحام حصن الاستعمار والاستيلاء عليه وفي هذا السياق فإن البرجوازية كانت تحتاج الى حلفاء من صف التقدم، وهذا هو سبب اللقاء بين الطروسي وكامل.

وقد رأينا أن الطروسي قد عاد الى البحرشريكًا في مركب، وحكمت الكتلة الوطنية وحزب الشعب في بداية الخمسينيات شريكين في مؤسسات دستورية سورية واحدة.

إن كامل لم يكن سلم قيم اخلاقية.. كان بداية وعي اشتراكي، ولم يكن له من تأثير على الطروسي الا بمقدار ما كانت الاشتراكية، في صيرورتها التاريخية، نضالاً في سبيل التحرر الوطني في الخمسينيات.

وبانتقالنا الى تناول بعض الجوانب الفنية في روايات حنا مينة، نجد  انه يستخدم التداعي ممتزجًا بالتذكر ومتداخلاً مع الحوار الخارجي في المواقف التي تعاني فيها الشخصية من اضطراب شديد، ففي رواية "الشمس في يوم غائم" نرى المشهد الذي تلقى الفتى فيه من والده صفعات ثلاث: "وثلاث صفعات (...) ليست يدي انها لا تمتد. هو والدي... وحتى لو لم يكن فليست يدي. لسوف أذهب، أسافر، ولكن الخنجر باقٍ، إنني أعرف لقد سمعتهم هناك يدقون الأرض،.. وأغمضت عيني حتى لا أرى تشقق  الأرض. خُيّل اليّ أن هوة تنفتح فيها، وبيتنا، وقلعتنا تهوي، وصورة الجد تسقط وتتحطم، ثم تأتي مع دوران الأشياء، والسيول  الجارفة، وتنحدر في بالوعة الدوامة، والمرأة ذات العينين السوداوين تمسك بالخنجر ووالدتي تركع أمامها مستجيرة مذعورة". ويوظّف حنا مينة في رواياته تقنية تيار الوعي (stream of consciousness) حين تنفعل الشخصية بما يحدث أمامها انفعالات لا تستطيع أن تفصح عنها فيقولها عنها الروائي.

وقد استخدمت الروايات هذه التقنية في أكثر من موضع في رواية "الثلج يأتي من النافذة"، وفي رواية "الياطر".
وفي رواية "الشمس في يوم غائم" ثم  توظيف تيار الوعي ليكشف التناقض بين تفكير الشخصية واقوالها في موقف يأمر فيه الوالد، ابنه بالسفر الى فرنسا:
- "عد الى سريرك وحين تشفى ترحل الى فرنسا.
- أرحل الى أي مكان.
- ستترك.
- لا أرغب فيه.
- طبعًا أنت ترقص لا تعزف.
- "وقلت في نفسي أنا أدّق الأرض لتستفيق".
أجبت:
- لن أعزف ولن أرقص ومستعد الآن لترك البيت".

خلاصة:
بعد استعراضنا لخلفية حنا مينة الحياتية وانعكاس أحداثها على أدبه الروائي، وتأثيرها في بلورة شخصيته، ككاتب روائي مبدع تُرجمت أعماله الى 17 لغة، نجد أن البحر كان عاملاً وعنصرًا رئيسيًا وهامًا في تأطير فلسفته كأديب وفي صياغة المواضيع والأفكار في الكثير من أعماله، كما رأينا آنفًا، لا سيما وأنه خاض غمار تجربة العمل في البحر والموانئ، وذاق الفقر والتشرد وصعوبة الحياة ومشاقّها في مطلع حياته، وبصبره ومثابرته قطع طريقًا صعبًا، واستطاع أن يصعد ليكون رائدًا في الكتابة عن البحر حيث طرق مواضيع لم يطرقها أحد من قبله في ميدان الرواية العربية، فكان أسلوبه مميزًا وابداعيًا فريدًا، مما جعل الكاتب الكبير نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل في الآداب يرشحه لنيل جائزة نوبل تقديرًا واحترامًا لموهبته الخلاّقة وتجربته الغنية في مجال كتابة الرواية، ولا غرو إذا أطلقنا على حنا مينة لقب "كونراد الرواية العربية" لكون حنا مينة قد عايش البحر وكتب عنه، وكان أمينًا لتقاليد البحر والبحارة، تمامًا كما سبقه الى ذلك الروائي الانجليزي البولندي الأصل جوزيف كونراد الذي أثرى الأدب الانجليزي في بداية القرن العشرين بروائعه القصصية عن البحر بعد أن خَبِرَ البحر فترة سنوات طويلة في أثناء عمله وتجاربه في البحر ككابتن وقبطان سفينة، فكانت مواضيعه تتمحور  حول تصوير مغامري ما وراء البحار، والبحّارين، وغموض الغابة.

ويبدو أن كونراد استنتج في النهاية أنه في البحر وحده تستطيع الاستقامة الانسانية الحفاظ على وجودها وان تكتسب شيئًا ذا دلالة، وبنفس الكيفية - وإن اختلفت الظروف والبيئة الاجتماعية - عشق حنا مينة البحر وكتب عنه بصدق وامانة، فكان مُجددًا في هذا المجال من فن كتابة الرواية العربية.
منير توما

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال