نظرية التلقي: تحول جذري في النقد الأدبي من سلطة المؤلف إلى إبداعية القارئ

ما هي نظرية التلقي؟

تعد نظرية التلقي (Reception Theory) أحد أهم المناهج النقدية التي حولت مركز الاهتمام من المؤلف أو النص إلى القارئ أو المتلقي. قبل ظهورها، كان النقد يركز بشكل أساسي على شخصية الكاتب (المنهج التاريخي والنفسي) أو على النص كبنية مستقلة بذاتها (المنهج البنيوي). جاءت هذه النظرية لتؤكد أن المعنى الحقيقي للعمل الأدبي لا يكتمل إلا من خلال تفاعل القارئ معه، حيث يساهم القارئ بخبراته وتوقعاته في بناء المعنى.

جذور وتطورات النظرية

تعود الأفكار الأولى التي مهدت لظهور نظرية التلقي إلى الناقد إيفور آرمسترونغ ريتشاردز (I.A. Richards) في أوائل القرن العشرين. قام ريتشاردز بتجارب نقدية عملية درس فيها استجابات الطلاب للقصائد الشعرية دون الكشف عن أصحابها، ليؤكد أن تأثير القصيدة وقيمتها لا يكمنان فقط في بنيتها، بل في قدرتها على إثارة استجابات معينة لدى المتلقي.

تطورت هذه الفكرة لاحقًا مع ظهور منادين بضرورة تحليل النص من منظور أوسع، مستفيدين من علوم الإنسان المختلفة مثل علم النفس والاجتماع، لفهم كيفية تفاعل مشاعر القارئ مع النص.


مدرسة كونستانز الألمانية: التأسيس الرسمي

ظهرت نظرية التلقي بشكلها الأكثر تنظيمًا وتأثيرًا على يد مجموعة من النقاد في جامعة كونستانز الألمانية، وفي مقدمتهم هانز روبرت ياوس (Hans Robert Jauss) وفولفغانغ آيزر (Wolfgang Iser). أطلق عليها ياوس اسم "جماليات التلقي" (Aesthetics of Reception).

كانت الفكرة الأساسية لهذه المدرسة أن النص الأدبي ليس بنية مغلقة أو مكتفية بذاتها، بل هو بنية مفتوحة تحتاج إلى القارئ لإكمالها. حيث اقترح ياوس مفهوم "أفق التوقع" (Horizon of Expectation)، الذي يشير إلى مجموع المعتقدات، المعارف، والتجارب الثقافية التي يمتلكها القارئ قبل قراءته للنص. عندما يقرأ القارئ النص، قد يتطابق النص مع توقعه أو يخالفه، وهذا التفاعل هو ما يحدد قيمة العمل الأدبي وأهميته.

أما فولفغانغ آيزر، فقد ركز على الجوانب النصية التي تشجع القارئ على المشاركة في بناء المعنى، مثل "الفجوات" أو "الأماكن غير المحددة" في النص. هذه الفجوات هي التي تمنح القارئ مساحة ليملأها بخياله وتجربته الشخصية، مما يجعل عملية القراءة نشاطًا إبداعيًا مشتركًا بين المؤلف والقارئ.


خلاصة: تحول في النقد الأدبي

باختصار، حولت نظرية التلقي النقد الأدبي من كونه عملية تحليل للمؤلف أو النص فقط، إلى عملية تفاعلية تأخذ في الاعتبار دور القارئ الفاعل في إنتاج المعنى. أصبحت قيمة العمل الأدبي تقاس بمدى قدرته على إثارة استجابات متعددة لدى القراء عبر مختلف العصور والثقافات.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال