تفاصيل وتطورات ثورة 14 تموز 1958 في العراق: من التخطيط السري إلى إعلان الجمهورية
في مطلع شهر حزيران من عام 1958، شهدت الأوساط العسكرية العراقية تحركات بالغة الأهمية كانت نذيرًا لتغيير جذري قادم. وصلت معلومات دقيقة إلى الضباط الأحرار، التنظيم السري الذي كان يخطط للإطاحة بالنظام الملكي الهاشمي، تؤكد أن اللواء العشرين التابع للفرقة الثالثة، المتمركز في منطقة ديالى، سيتحرك إلى الأردن، مروراً بالعاصمة بغداد. هذه المعلومة لم تكن مجرد تفصيلة عسكرية عابرة، بل كانت الإشارة التي انتظرها الضباط طويلاً لاغتنام الفرصة السانحة لتنفيذ مخططهم.
قادة الثورة: ثلاثي التخطيط السري
كان اللواء العشرين يضم في صفوفه شخصيات محورية ضمن تنظيم الضباط الأحرار. عبد السلام عارف، الذي كان يشغل منصب آمر الفوج الثالث في هذا اللواء، وعبد اللطيف الدراجي، آمر الفوج الأول، كانا على اطلاع تام بالخطط السرية. شكل هذان الضابطان، إلى جانب زعيم التنظيم والمنظم الرئيسي له، عبد الكريم قاسم، الذي كان يشغل منصب رئيس أركان اللواء العشرين، النواة القيادية الثلاثية التي اتفقت على تحديد ساعة الصفر واستغلال مرور قطعات اللواء ببغداد كنقطة انطلاق للثورة.
تميزت هذه المرحلة من التخطيط بـالتكتّم الشديد والسرية المطلقة. حرص القادة الثلاثة، عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وعبد اللطيف الدراجي، على إبقاء تفاصيل ساعة الصفر وأدوار التنفيذ سرية للغاية، حتى عن بعض الضباط الأعضاء في اللجنة العليا للتنظيم. كان الهدف من هذا الإجراء الاحترازي هو ضمان عدم تسرب أي معلومات قد تصل إلى أجهزة الأمن الحكومية وتفشل المخطط بأكمله. كانت التكهنات حول توقيت الثورة منتشرة، لكن سرية موعدها الفعلي كانت حجر الزاوية في نجاحها.
ليلة الحسم: إعلان ساعة الصفر وبدء التنفيذ
مع اقتراب الموعد الحاسم، وفي مساء يوم الأربعاء، التاسع من تموز 1958، عُقد اجتماع بالغ الأهمية. في هذا الاجتماع، الذي ضم القادة الثلاثة والضباط الرئيسيين المشاركين في الثورة، تم الكشف أخيراً عن ساعة الصفر وبدء العمليات. تم توزيع الواجبات والأدوار بشكل دقيق على كل ضابط، بدءاً من تأمين الطرق الاستراتيجية في بغداد، والسيطرة على المباني الحكومية الرئيسية، ووصولاً إلى محاصرة القصر الملكي. كان هذا الاجتماع تتويجاً لجهود مضنية استمرت لسنوات في توفير العتاد اللازم، وتدريب الأفراد، وتأمين الموارد الضرورية لإنجاح الثورة. كل التفاصيل تم وضعها بعناية فائقة لضمان عنصر المفاجأة والسرعة في التنفيذ.
إعلان الجمهورية: البيان الأول وتشكيل الحكومة الجديدة
في ساعات فجر يوم الاثنين الموافق 14 تموز 1958، ومع بدء تحرك قطعات اللواء العشرين عبر بغداد، بدأت العملية الثورية. بعد ساعات قليلة من بدء التحرك الفعلي، اجتمع الضباط الأحرار الثلاثة: عبد الكريم قاسم، وعبد السلام عارف، وعبد اللطيف الدراجي. أقروا الصيغة النهائية لـالبيان الأول للثورة، وهو البيان التاريخي الذي أعلن نهاية العهد الملكي في العراق.
في تمام الساعة السادسة صباحاً، صدح صوت عبد السلام عارف من دار الإذاعة العراقية، معلناً بداية عهد جديد للعراق. كان وقع البيان الأول كالصاعقة على مسامع العراقيين، وقد بدأ بكلمات قوية ومؤثرة: "أيها الشعب العراقي الكريم. بعد الأتكال على الله ومؤازرة المخلصين من أبناء الشعب والقوات المسلحة أقدمنا على تحرير الوطن العزيز من سيطرة الطغمة والفاسدة التي نصبها الأستعمار...".
بعد إذاعة البيان، تم الاتفاق على تقسيم الأعمال والمناصب الرئيسية ضمن الهيكل الجديد للدولة. تم اختيار الفريق الركن نجيب الربيعي رئيساً لمجلس السيادة، وهو منصب فخري يمثل رأس الدولة في النظام الجمهوري الجديد. أما قيادة الحكومة والقوات المسلحة، فقد تولاها عبد الكريم قاسم بصفته رئيساً للوزراء وقائداً عاماً للقوات المسلحة، مانحاً إياه السلطة التنفيذية والعسكرية العليا في البلاد.
تم تعيين عبد السلام عارف نائباً للقائد العام للقوات المسلحة، ونائباً لرئيس الوزراء، ووزيراً للداخلية، مما جعله الرجل الثاني في القيادة وذو نفوذ واسع في الإدارة المدنية والعسكرية. أما عبد اللطيف الدراجي، فقد تم تعيينه آمراً للكلية العسكرية، وهو منصب استراتيجي لضمان ولاء المؤسسة العسكرية للنظام الجديد وتأهيل الأجيال القادمة من الضباط.
شكلت الثورة أيضاً وزارة ائتلافية ضمت عناصر من المعارضة الوطنية التي طالما عارضت النظام الملكي. كانت هذه الخطوة تهدف إلى جمع أكبر قدر من الدعم الشعبي والسياسي للنظام الجديد وإظهار جبهة موحدة تسعى لبناء عراق حر ومستقل. وهكذا، شهد يوم 14 تموز 1958 نهاية حقبة وبداية أخرى في تاريخ العراق الحديث، معلناً قيام الجمهورية العراقية.