المالية العامة في المجتمع الرأسمالي حتى عام 1930م.. أداة لتجهيز الدولة بالدخل الضروري لتغطية نفقاتها ولتحقيق التدخل في الحياة الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع

المالية العامة المحايدة:
تطور علم المالية العامة تطورا كبيرا خلال الفترة الاخيرة، وان هذا التطور لم يلحق وسائلها الفنية فحسب، وانما لحق مفهوم المالية العامة نفسها والاهداف التي تسعى الدولة الى تحقيقها، وان تطور علم المالية هو انعكاس لتطور الدولة، فعلم المالية العامة وقواعدها كانت مرتبطة بطبيعة الدولة المحايدة  التي شاعت في القرن التاسع عشر، أي مرتبطة  بالدولة الحارس، كما يسميها الاقتصاديون انصار آدم سمث، وان مايجب ملاحظته هو ان  كل نظرية مالية وما يترتب عليها من سياسة خاصة بالنفقات والايرادات والميزانية، انما يصدران عن نظرية اقتصادية معينة. ولما كانت النظرية الاقتصادية نفسها لا تبقى جامدة بل تتطور وتتعدل تحت تأثير المشكلات الواقعية التي تحدث في النظم الاقتصادية. فان هذا التطور يؤدي بدوره الى تطوير النظرية والسياسة الماليتين، ومن هنا يتفاعل الفكر الاقتصادي والتطور الواقعي في تعديل وتطوير الفكر والسياسة في المالية العامة.

فالنظرية المالية الكلاسيكية كانت نتيجة حتمية للنظرية الاقتصادية الكلاسيكية، ولما كانت السياسة المالية التي طبقتها الدول الراسمالية خلال القرن التاسع عشر وحتى العقد الرابع من القرن العشرين تطبيقا للنظرية المالية الكلاسيكية فإن معنى ذلك ان هذه السياسة كانت هي الاخرى انعكاسا للنظرية الاقتصادية الكلاسيكية.

أما الأسس التي كانت تستند اليه النظرية الاقتصادية الكلاسيكية هي كما يأتي:

1- اشار الكلاسيك ان فكرة التوازن بين العرض الكلي والطلب الكلي وحالة الاستخدام الكامل متحققة مالم تتدخل الدولة في الميدان الاقتصادي، وأن جهاز الاسعار في ظل المنافسة الحرة كفيل بتحقيق هذا  الهدف، وبعبارة اخرى ان الحرية الاقتصادية والنشاط الخاص كفيلان بتحقيق التوازن.

2- كما اشار الكلاسيك الى ان الادخار هو العامل الرئيسي لنمو الاقتصاد، لان النمو يتوقف على ما يتكون من رؤوس اموال او استثمارات عينية  تزيد من انتاجية الاقتصاد وانتاجه. ويتوقف حجم رأس المال او الاستثمار على حجم الادخار، وعلى ذلك فاذا اريد زيادة النمو الاقتصادي لابد من تشجيع الادخار.

3- واشارو إلى أن الادخارات لابد وان تجد سبيلها الى الاستثمارات وان معدل الفائدة، هو العامل التوازني  بينهما بشكل يصبح معه الطلب الكلي على السلع والخدمات مساويا" الى العرض الكلي مع تحقيق حالة الاستخدام الكامل.

وقد انعكست هذه المبادئ في النظرية المالية الكلاسيكية وماترتب عليها من سياسة مالية طبقا لما يأتي:
1- إن دور الدولة ينحصر في وظائف محدودة، حددها آدم سمث بالدفاع عن الاقليم ضد الاعتداء الخارجي، وحماية الملكية الخاصة، وتحقيق الامن في الداخل، والقيام بالمشاريع العامة التي لاينتظر ان يقوم بها  النشاط الخاص، اما لضخامة ما تتكلفه من اموال، واما لضآلة ماتدره من أرباح.

2- تلجأ الدولة للضرائب للحصول على الايرادات اللازمة لتغطية تلك النفقات العامة المحدودة ، ويجب ان يكون القصد الوحيد من الضرائب هو هذا القصد المالي الذي  يتلخص في الحصول على الايرادات اللازمة لتمويل النفقات العامة.

وخلاصة هذين المبدأين الاول والثاني، ان المالية العامة بما تقوم عليه من نفقات وايرادات متأتية من الضرائب يجب  ان لايكون لها اية تأثير على المالية الخاصة والنشاط الفردي، وبعبارة اخرى ان المالية العامة يجب ان تكون حيادية.

3- يجب  أن لأ تعوق الضرائب في فرضها تكوين الادخار حتى لاتعوق تكوين رؤوس الاموال وتضعف من النمو الاقتصادي، ونتيجة لذلك، مالت النظرية المالية الكلاسيكية الى تفضيل الضرائب غير المباشرة على الاستهلاك، لانها لاتعرقل الادخار بل تؤدي الى ايجاد ادخار جماعي اجباري، والى تفضيل الضرائب النسبية في نطاق الضرائب المباشرة.

4- كما يجب ان تكون الموازنة العامة متوازنة، بمعنى ان تغطي النفقات العامة عن طريق الايرادات العادية، وبعبارة أخرى  يجب عدم الالتجاء إلى القروض العامة، لأنه فضلا عما تتركه من اعباء على الاجيال القادمة، فأنها اتخذت شكل اقتراض نقود جديدة من البنوك، الذي ادى الى زيادة الكمية النقدية، ومن ثم الى حدوث ارتفاع تضخمي في الاسعار، وان قامت على الاقتراض من الجمهور 0 فأنها تقطع جزءا" من ادخار الجمهور  الذي كان يستخدم في الاستثمار، فينقص بذلك  الاستثمار  الخاص، وتستعمل الحكومة مبلغ  القرض غالبا" في  انفاق حكومي غير استثماري، وبذلك يضعف الاقتراض العام من تكوين رؤوس الاموال. ويضعف بالتالي من النمو الاقتصادي.

وفي ضوء ماتقدم يتضح ان المالية العامة لم تكن الا أداة لتجهيز الدولة بالدخل الضروري لتغطية نفقاتها الادارية، أي ان وظيفتها الاساسية التي يجب ان تكتفي بها ولا تتعداها الى  غيرها هي مد الدولة بالموارد الضرورية لتغطية نفقاتها الادارية.

ولكن الاحداث التي وقعت في العقود الاخيرة من القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، وازمة 29/1930 أظهرت عن عدم امكانية الاستمرار في تطبيق مفهوم المالية العامة التي جاءت به المدرسة الكلاسيكية، والذي يقتضي بوجوب بقاء الدولة حيادية تجاه الاحداث الاقتصادية والمالية، التي تحدث في المجتمع، مما دفع بعض الاقتصاديين الى الخروج عمليا" عن تلك المبادئ والاسس، واوعزوا الى الدولة ان تتخلى عن موقفها السلبي او الحيادي، ازاء الاحداث الاقتصادية.

وكان في مقدمة هؤلاء الاقتصاديين (اللورد كينز). الذي هاجم قانون (ساي) الذي يقول فيه (ان العرض يولد الطلب ويساويه) وأشار الى أن (الطلب هو منشأ العرض) أي انه عندما يطلب الافراد السلع، فان المنتجين يسرعون في إنتاجها، ويستخدمون اليد العاملة والموارد الاولية.

وأشار كينز الى احتمال نقص الطلب على العرض، وما يحدثه هذا النقص من قلة الانتاج والاستغناء عن عوامل الانتاج مادية  وبشرية وظهور البطالة، فلم يعد الكتاب يسلمون بالتوازن الذاتي بين العرض وبين الطلب ولايتقبلون فكرة تحقيق الاستخدام الكامل ذاتيا"، ولا يؤمنون بحيادة الدولة ازاء الاحداث الاقتصادية والاجتماعية  بل راح الاقتصاديون الكينزيون، يلقون على عاتق الدولة التبعات الجديدة في تحقيق الاستخدام الكامل.

وهكذا فان تطور الفكر الواقع حتى العقد الرابع من هذا القرن، قد هدم مبدأ حيادية المالية العامة، اذا توسعت النفقات العامة من ناحية، واستخدمت الضرائب لتحقيق اغراض غير مالية من ناحية اخرى، فأصبحت المالية العامة ليس فقط أداة لتجهيز الدولة بالدخل الضروري لتغطية نفقاتها، وانما ايضا اداة  لتحقيق التدخل في الحياة الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال