"من هو اليهودي؟": صراع تاريخي وأيديولوجي حول مفهوم الانتماء في الشتات ودولة إسرائيل

الأبعاد التاريخية لقضية "من هو اليهودي":

لم تظهر قضية "من هو اليهودي" فجأة، بل هي نتيجة لتاريخ طويل من التحولات الاجتماعية والدينية. في المجتمعات اليهودية التقليدية، كان التعريف الديني هو السائد بشكل مطلق. كانت الهوية اليهودية تُورث عبر الأم، وكان المتحولون إلى اليهودية يُدمجون في المجتمع دون جدل. هذا الوضع تغير بشكل جذري في القرون الأخيرة، خاصة مع ظهور:

  • حركات التنوير (Haskalah): في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بدأت حركات التنوير اليهودي في أوروبا في تشجيع اليهود على الاندماج في المجتمعات الأوروبية العلمانية. هذا أدى إلى ظهور تيار من اليهود الذين تخلوا عن الممارسات الدينية مع احتفاظهم بانتماء ثقافي وإثني.
  • الصهيونية: مع بزوغ الحركة الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر، تحولت الهوية اليهودية من كونها قضية دينية بحتة إلى هوية قومية سياسية. كان هدف الصهيونية هو إنشاء دولة قومية لليهود، وهو ما أدى إلى ظهور تعريف قومي لليهودي، بغض النظر عن مدى التزامه الديني.
  • المحرقة (الهولوكوست): تركت المحرقة أثرًا عميقًا، حيث تم اضطهاد وقتل اليهود على أساس عرقهم وأصلهم، وليس فقط على أساس دينهم. هذا عزز فكرة أن اليهودية هي هوية إثنية وعرقية تتجاوز مجرد الإيمان.


التأثير القانوني: قانون العودة في إسرائيل

بعد تأسيس دولة إسرائيل عام 1948، كان عليها أن تضع تعريفًا قانونيًا لليهودي. جاء قانون العودة عام 1950 ليمنح كل يهودي حق الهجرة إلى إسرائيل والجنسية. ومع ذلك، لم يحدد القانون بوضوح "من هو اليهودي". هذا الغموض أدى إلى خلافات حادة، خاصة في قضية التحول الديني.

عام 1970، تم تعديل القانون ليشمل تعريفًا أوسع لليهودي، ليشمل:

  • الشخص المولود لأم يهودية أو الذي اعتنق اليهودية.
  • أي شخص له أب أو جد يهودي.
  • زوج أو زوجة يهودية.

هذا التعديل أثار جدلاً كبيرًا، خاصةً مع الحاخامات الأرثوذكس، الذين اعتبروا أن هذا التعريف يضعف من مكانة التعريف الديني التقليدي. فهم يرون أن منح حقوق المواطنة لشخص له جد يهودي ولكنه لا يمارس الشعائر الدينية يُعدّ تهديدًا للطابع اليهودي للدولة.


أثر الاختلاف على المجتمع اليهودي المعاصر:

يُعتبر هذا الخلاف حول الهوية اليهودية انعكاسًا للصراع بين التيارات الفكرية المختلفة:

  • التيار الأرثوذكسي: يصر على أن الهوية اليهودية مرتبطة بشكل لا ينفصم بالشريعة الدينية (الهلاخاه)، ويرفض الاعتراف بالتحولات التي تتم خارج إطار قواعده الصارمة.
  • التياران الإصلاحي والمحافظ (التيارات الليبرالية): يتبنيان نظرة أكثر مرونة، حيث يركزان على الحفاظ على التراث اليهودي مع التكيف مع العصر الحديث. يقبلان التحول الديني وفقًا لقواعدهما الخاصة، ويعترفان باليهودية عبر الأب في بعض الحالات.
  • التيار العلماني: يركز بشكل كامل على الهوية القومية والثقافية، ويعتبر أن الارتباط بالأرض، والتاريخ، واللغة العبرية هو ما يحدد الهوية اليهودية.

نتيجة لهذا التباين، يمكن أن يجد اليهودي نفسه مقبولًا كيهودي في إسرائيل بموجب القانون، ولكنه غير مقبول من قبل الحاخامية الأرثوذكسية هناك. هذا التناقض القانوني والديني يطرح تحديات كبيرة، ويُعدّ سببًا رئيسيًا للتوتر بين التيارات اليهودية المختلفة في جميع أنحاء العالم.

إن قضية "من هو اليهودي" ليست مجرد سؤال تعريفي، بل هي انعكاس لصراع أيديولوجي عميق حول مستقبل الشعب اليهودي ودولة إسرائيل.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال