"الساعة والإنسان" لسميرة عزام: رحلة في عمق الزمن، قسوة الفقد، وتفكك الروابط الإنسانية
تُعد قصة "الساعة والإنسان" للأديبة سميرة عزام تحفة سردية تتجاوز حدود الحكاية البسيطة لتغوص في أعماق النفس البشرية والاجتماعية، مستخدمة الرمز والمعنى الكامن لتكشف عن مآسٍ إنسانية عميقة. تدور القصة حول شخصية محورية غامضة، هو "أبو فؤاد"، الذي يظل لغزًا عصيًا على الفهم حتى يتفجر حدثٌ غير متوقع يقلب كل الموازين: غيابه المفاجئ عن موعده الصباحي المعتاد. هذا الغياب هو الشرارة التي تُضيء الظلال حول شخصيته، وتدفع الراوي، الذي هو فتحي، لاكتشاف السر وراء هذا "المنبه البشري".
أبو فؤاد: ضحية الزمن ونضال ضد القدر
يُشكل أبو فؤاد المحور الأساسي للقصة، فيما يقتصر دور الراوي (فتحي) على كونه أداة سردية تُساعد القارئ على فك شيفرة هذه الشخصية الغامضة. يكشف السرد تدريجيًا عن الخلفية المأساوية التي صاغت شخصية أبي فؤاد. لقد مر بتجربة إنسانية قاسية كانت بمثابة صدمة مزلزلة لحياته: فقدان ابنه الشاب. كان الابن يسافر يوميًا بالقطار إلى عمله، وفي يوم من الأيام، فاته الموعد "بدقائق قليلة معدودة"، ليُلقى حتفه صريعًا تحت عجلات القطار.
هذه الفاجعة لم تكسر أبا فؤاد فحسب، بل دفعته إلى تبني مسؤولية ذاتية صعبة وشاقة: محاربة الزمن. أصبح وقته وعمرهُ مُكرّسان لمنع تكرار المأساة ذاتها مع الآخرين. فكل صباح، يُبذل جهودًا مضنية ليوقظ زملاء ابنه المتجهين إلى عملهم، مُتخذًا من نفسه "منبهًا بشريًا" لضمان عدم تأخرهم ولو لدقيقة واحدة، خشية أن يلاقوا نفس مصير ابنه.
هذه المهمة التي اختارها أبو فؤاد لنفسه جعلته شخصية بلا ملامح في نظر من حوله. بالنسبة لفتحي الراوي، لم يكن أبو فؤاد سوى "منبه دقيق في الموعد"، صوتٌ مجرد، وعادة يومية. لم يكن فتحي يتخيل أن وراء هذا "الصوت" إنسانًا له قصة موجعة، وتجربة قاسية، ومشاعر حية، وحياة كاملة تُختزل في هذا الدور اليومي.
تأزم القصة وانكشاف الحقيقة:
تصل القصة إلى ذروتها وتتأزم أحداثها عندما يختفي أبو فؤاد فجأة عن موعده الصباحي المعتاد. هذا الغياب، الذي يكسر روتينًا يوميًا راسخًا، يُثير فضول فتحي وقلقه. يدفع الفضول فتحي للبحث عن أبي فؤاد، فيتوجه مع عبد الله إلى السوق، لكن دون جدوى. عندها، يتخذ قرارًا حاسمًا بزيارة منزل أبي فؤاد، وهو ما يُعد نقطة تحول في القصة.
هنا، تُبرز الكاتبة سميرة عزام براعتها في الوصف الدقيق للمكان. تُركز على أدق تفاصيل المنزل: "جدرانه، بابه، باحته، إلخ". هذا الوصف المكثف لا يهدف إلى رسم صورة حسية فحسب، بل هو جزء لا يتجزأ من الكشف عن حقيقة أبي فؤاد. فالمنزل، بتفاصيله المتهالكة، يُصبح مرآة لحياة صاحبه. وعندما يصل فتحي إلى المنزل، يجد أبا فؤاد "جثة هامدة"، كأن الموت قد سكن كل شيء في المكان. المفارقة هنا أن الكاتبة تستثني من هذا السكون والجمود "إلا الساعة". هذا الاستثناء يُعد رمزًا عميقًا، فالزمان الذي حارب أبو فؤاد من أجله، هو الوحيد الذي ظل نابضًا بالحياة بعد موته.
أبعاد القصة: الزمن، التفكك الاجتماعي، والإنسانية
تتعدد أبعاد قصة "الساعة والإنسان" لتُعالج قضايا وجودية واجتماعية عميقة:
1. موتيف الزمن كقوة قاهرة:
تُعالج سميرة عزام مفهوم "الزمن" كـ "موتيف" (فكرة متكررة أو دافع) مركزي في إطار قصصي رقيق ومؤثر. الزمن ليس مجرد إطار للأحداث، بل هو قوة فاعلة وعبثية في حياة الإنسان. المفارقة التي تُبرزها الكاتبة هي أن الزمن، الذي هو مجرد مفهوم "صنعه الإنسان" لتنظيم حياته، أصبح هو المتحكم فيه. يُلاحظ تكرار هذا الموتيف بوضوح عبر كل أجزاء القصة:
- في العنوان ذاته: "الساعة والإنسان".
- في تفاصيل السرد: "الساعة لما تبلغ الرابعة صباحًا..."، "تأخر...".
- انتهاءً بصوت الساعة: "تك تك تك"، الذي يتردد كإيقاع ثابت رغم توقف حياة أبي فؤاد، مؤكدًا على استمرارية الزمن في وجه الفناء البشري. هذا التكرار يُعزز فكرة أن صراع الإنسان مع الزمن هو صراع وجودي مستمر، وأن الوقت، بكل دقائقه وثوانيه، يمكن أن يحدد مصير حياة أو موتها.
2. تفكك الروابط الاجتماعية والجمود الإنساني:
مساران متوازيان يلتقيان في القصة:
تُقدم القصة مسارين سرديين متوازيين يتقاطعان ليكشفا عن الأبعاد الفكرية العميقة:
- المسار الأول: قصة الراوي (فتحي): يُمثل هذا المسار حياة الموظف الشاب الجديد، الذي يبدأ نهاره بعمل جديد مليء بالتخوفات والمخاوف الطبيعية لأي موظف جديد يدخل عالم الوظيفة ويسعى لإثبات ذاته. يعيش فتحي روتينه اليومي بشكل سطحي، غير مدرك لوجود بعد إنساني عميق للرجل الذي يوقظه كل صباح.
- المسار الثاني: قصة أبي فؤاد: هو مسار المأساة والفقد العميق الذي عاشه الأب بفقدان ابنه. هذا المسار يُجسد الألم الداخلي والصراع النفسي الذي يعيشه أبو فؤاد، وكيف أن هذا الفقد دفعه إلى نكران ذاته في سبيل الآخرين، ليُصبح رمزًا للتضحية الصامتة.
يلتقي هذان المساران في القصة ليشكلان وجهين لعملة واحدة، ويكشفان عن رسائل الكاتبة:
- الوجه الأول: صراع الإنسان مع الزمن: يمثل أبو فؤاد تجسيدًا لهذا الصراع، فهو يُحارب الزمن الذي خطف ابنه، ويُكرّس حياته لضبطه للآخرين. بينما يُعاني فتحي من صراع خفي مع الزمن المتمثل في القلق من التأخر عن العمل، وهذا ما يجعله يعتمد على أبي فؤاد دون إدراك.
- الوجه الآخر: أهمية الفرد في المجتمع: تتجلى هذه الأهمية في شخصية أبي فؤاد، الذي على الرغم من كونه شخصية هامشية في نظر المجتمع، إلا أن غيابه يُحدث خللاً ويُفجّر تساؤلات تكشف عن دوره الحيوي، وإن كان صامتًا. فالقصة تؤكد على أن كل فرد، مهما بدا بسيطًا أو غير مرئي، له قيمة وأثر في نسيج المجتمع، وأن تجاهل هذه القيمة يؤدي إلى تفكك الروابط الإنسانية وفقدان التعاطف.
بهذا، تُقدم سميرة عزام قصة ذات أبعاد متعددة، تدعو إلى التأمل في طبيعة الزمن، وعمق الفقد، وأهمية إعادة إحياء الروابط الإنسانية في عالم يميل إلى التفكك والسطحية.