الموت في التصور الإسلامي: خلق إلهي ونهاية للتكليف
يُعدّ الموت في المنظور الإسلامي حقيقة كونية عظيمة ومحورية، لا مجرد نهاية للحياة، بل هو خلق إلهي مقصود ومناقض للحياة في جوهره. هذه الفلسفة القرآنية تُعلي من شأن الموت كجزء لا يتجزأ من تدبير الله للكون ومقدمة للحياة الأخرى. يُوضح القرآن الكريم هذه الحقيقة بوضوح تام، مما يُضفي على الموت بعداً روحياً ومعنوياً عميقاً يتجاوز الفهم المادي.
الموت: خلقٌ إلهي لهدفٍ عظيم
القرآن الكريم يُثبت أن الموت ليس عدماً محضاً أو نهاية عشوائية، بل هو مخلوق من مخلوقات الله، وُجد لهدف سامٍ. يتجلى هذا المعنى بوضوح في قوله تعالى:
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (سورة الملك: الآيتان 1-2).
هذه الآية الكريمة تُشير إلى عدة حقائق جوهرية:
- خلق الموت: يُقرن الله سبحانه وتعالى بين خلق الموت وخلق الحياة، مما يدل على أن كليهما يندرج تحت قدرته المطلقة وكمال تدبيره. الموت ليس مجرد غياب للحياة، بل هو حالة وجودية مُدبرة، لها قوانينها وسننها الإلهية.
- الغاية من الخلق: الهدف الأسمى من خلق الموت والحياة هو الابتلاء والاختبار. فالحياة هي ميدان العمل والجهد، والموت هو نقطة التوقف التي تُحدد بداية مرحلة الجزاء. هذا الاختبار هو الذي يُفرز "أحسن عملاً"، أي من التزم بأوامر الله واجتنب نواهيه وأخلص في عبادته ومعاملاته.
- عظمة الخالق: تُختتم الآية بصفات الله "العزيز الغفور"، مما يُشير إلى قوته القاهرة في تحقيق هذا التدبير الكوني (العزيز)، وفي نفس الوقت رحمته الواسعة لمن أحسن العمل (الغفور)، مما يبعث على الرجاء والخوف معاً.
هذا الفهم للموت كمخلوق وغاية يُضفي عليه أهمية بالغة في التصور الإسلامي، ويجعله ليس نهاية مفجعة، بل بوابة لمرحلة جديدة من الوجود.
الموت: نهاية التكليف وبداية الحساب
من أهم الحقائق التي يقررها الإسلام حول الموت أنه هادم لأساس التكليف. فمع حلول لحظة الوفاة، ينتهي التكليف الشرعي عن الإنسان تماماً. لم يعد مطالباً بالصلاة، الصيام، الزكاة، أو أي من الفرائض الدينية. كذلك لا يُحاسب على أي تقصير أو إحسان بعد تلك اللحظة.
- لا تكليف بعد الموت: بمجرد مفارقة الروح للجسد، يتوقف سجل الأعمال. فلا مجال للتوبة، أو لزيادة الحسنات، أو لتصحيح الأخطاء. هذا يؤكد على أهمية استغلال الحياة الدنيا كفرصة وحيدة للعمل الصالح.
- بداية الحساب والجزاء: بعد الموت، تبدأ مرحلة أخرى تماماً وهي مرحلة الحساب والجزاء. ينتقل الإنسان إلى عالم البرزخ، ثم إلى يوم القيامة حيث يُعرض عليه كل ما قدم، ليُجازى بالجنة لمن أحسن، وبالنار لمن أساء.
هذا المفهوم يُعزز من مبدأ المسؤولية الفردية في الإسلام، حيث إن كل إنسان مسؤول عن أعماله في حياته الدنيا، لأن هذه الحياة هي المهلة الوحيدة للعمل.
ندم المقصرين وتمنيهم العودة إلى الدنيا:
تُقدم لنا الآيات القرآنية صورة مؤثرة لحال الإنسان المقصر الذي أهدر فرصته في الحياة الدنيا ولم يستغلها في العمل الصالح. عندما يواجه هؤلاء حقيقة الموت، يدركون فداحة ما فاتهم، ويتمنون العودة إلى الدنيا لاستدراك ما فات. يُصوّر القرآن الكريم هذا المشهد بوضوح في قوله تعالى:
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (سورة المؤمنون: الآيتان 99-100).
تُشير هذه الآيات إلى عدة نقاط رئيسية:
- لحظة الندم: عندما يُباغت الموت الإنسان المقصر، يدرك حينها فوات الأوان. يُعبّر عن ندمه العميق وتمنيه الرجوع إلى الدنيا ليعمل "صالحاً فيما ترك"، أي ليتدارك ما أهمل من فرائض وحقوق، وليقوم بالأعمال الصالحة التي كان يغفل عنها.
- استحالة العودة: يأتي الرد الإلهي حاسماً: "كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا". هذا الرفض القاطع يؤكد عدم وجود فرصة ثانية. فالحياة الدنيا هي فرصة واحدة، والموت يغلق باب العمل ولا يفتحه مرة أخرى. هذه الكلمة هي مجرد تمنٍ لا قيمة له في واقع الأمر، لأن الأجل قد حان.
- البرزخ كمرحلة فاصلة: تُشير الآية إلى ما بعد الموت مباشرة بقوله: "وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ". البرزخ هو الحاجز أو الفاصل بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة، وهي مرحلة وسطى يقضيها الإنسان بعد موته وحتى قيام الساعة. في هذه المرحلة، تبدأ مقدمات الحساب والجزاء، ويُرى المرء مصيره من نعيم القبر أو عذابه.
هذه الآيات تُقدم تحذيراً شديداً لكل إنسان بأن يستغل فرصة الحياة قبل فوات الأوان، فالموت قادم لا محالة، وبعده لا ندم ينفع ولا فرصة تُتاح.
التسميات
تكليف