بديع الزمان الهمذاني وفن المقامة:
بديع الزمان الهمذاني هو أبو الفضل أحمد بن الحسين، وهو أديب عربي ولد في همذان بإيران. يعتبر الهمذاني رائدًا حقيقيًا في فن المقامة، حيث قام بتطويره وجعله فنًا أدبيًا مستقلاً له قواعده وأساليبه. اشتهر بذكائه وفصاحته وقدرته الفائقة على تأليف حكايات قصيرة تجمع بين الأدب والفكاهة والنقد الاجتماعي. ورغم أن ابن دريد يُعتبر أول من وضع بذرة المقامة، إلا أن الهمذاني هو من أرسى دعائم هذا الفن وصقله، وجعله وسيلة لتصوير الحياة الاجتماعية في القرن الرابع الهجري بكل تفاصيلها وشرائحها.
تعريف المقامة وعناصرها:
كلمة "مقامة" تعني لغويًا "الجماعة" أو "المجلس"، كما يمكن أن تعني "الموعظة" التي يلقيها شخص على جمع من الناس. أما اصطلاحًا، فهي حكاية أدبية قصيرة ومسجوعة، غالبًا ما تكون خيالية، تدور أحداثها حول موقف معين يتعرض له بطل المقامة، وينتهي الموقف غالبًا بموعظة أو بحكمة، أو بفكاهة.
تُعدّ المقامة نواة القصة القصيرة الحديثة، لأنها تشترك معها في عناصر سردية أساسية، لكنها تفتقر إلى بعض العناصر الرئيسية في القصة الحديثة مثل "العقدة" و"الحل" بالمعنى الدرامي العميق. تتكون المقامة من العناصر التالية:
- البيئة الزمانية: وهو الوقت الذي تدور فيه أحداث المقامة.
- البيئة المكانية: وهي المواقع التي تجري فيها الحكاية.
- الأشخاص: وهم الشخصيات الرئيسية والثانوية التي تحرك الأحداث.
- الحكاية (الموضوع والأحداث): وهي القصة الأساسية التي تدور حولها المقامة.
بطل المقامة وراويتها:
يتميز فن المقامات لدى الهمذاني بثنائية ثابتة في شخصياته الرئيسية:
- البطل: هو أبو الفتح الإسكندري، وهو شخصية محتالة وذكية، تتنقل بين المدن وتتخذ من الكدية (التسول) وسيلة للرزق. يُنسب اسمه إلى الإسكندرية الواقعة على نهر جيحون في بلاد فارس (وليس الإسكندرية في مصر).
- الراوية: هو عيسى بن هشام، وهو شخصية ثابتة ترافق أبا الفتح في رحلاته وتلتقي به في مواقف مختلفة. يقوم عيسى بن هشام بدور الشاهد على أفعال أبي الفتح ولسان الراوي الذي ينقل الحكاية إلى القارئ.
المقامة الحلوانية: تحليل تفصيلي
سميت المقامة الحلوانية بهذا الاسم نسبة إلى مدينة حلوان، وهي مدينة تقع جنوب همذان قرب بغداد في العراق.
عناصر المقامة الحلوانية:
- الزمان: تدور أحداث المقامة بعد عودة الراوي عيسى بن هشام من موسم الحج. هذا التوقيت يضيف بعدًا دينيًا للمقامة، ولكنه سرعان ما يختفي أمام الأحداث الفكاهية.
- المكان: يختار الهمذاني أحد حمامات حلوان كمسرح للأحداث. هذا الاختيار ليس عشوائيًا، فالحمام يمثل مكانًا عامًا يجمع مختلف طبقات المجتمع، ويُعدّ مساحة مثالية لأبي الفتح ليمارس فيها حيله.
- الأشخاص:
- عيسى بن هشام: هو الشخصية الرئيسية التي ترغب في الاستحمام وتتعرض لموقف محرج.
- أبو الفتح الإسكندري: هو البطل الذي يظهر فجأة ويخدع عيسى بن هشام.
- الخادم، صاحب الحمام، والعاملان: وهم شخصيات ثانوية تُشارك في الحيلة وتكشف عن دهاء أبي الفتح.
- الحكاية: تبدأ المقامة برغبة عيسى بن هشام في الاستحمام بعد عودته من رحلة الحج الشاقة. يتوجه إلى حمام في حلوان، وهناك يلتقي بشخص يدعي أنه عامل في الحمام، ليتبين لاحقًا أنه أبو الفتح الإسكندري الذي يخدعه وينتزع منه كل ما يملك من مال وثياب، ويتركه في موقف حرج للغاية.
المغزى من المقامة:
تُعد المقامة الحلوانية نموذجًا فذًا على براعة الهمذاني في استخدام الأدب لكشف مساوئ عصره. فهي لا تكتفي بالسرد الفكاهي، بل تُظهر ذكاء المحتالين وقدرتهم على استغلال المواقف لكسب المال، كما تُلقي الضوء على سذاجة الأغنياء ووقوعهم في فخاخ المحتالين.
