فن الطرديات بين النشأة الجاهلية والازدهار العباسي: دراسة معمقة لدور أبي نواس كـ"سيد الطرد" وتصويره المتقن لجمال وقوة كلاب الصيد

فن الطرديات في الشعر العربي: التطور والدلالة والريادة النواسية

تُعدّ الطرديات (جمع طَرْدِيَّة) غرضًا شعريًا فريدًا في الأدب العربي، اختص بوصف مشاهد الصيد، بما في ذلك الحيوانات المستخدمة في الصيد وطريقة مطاردة الفريسة واقتناصها. لم يقتصر هذا الفن على مجرد الوصف، بل ارتقى ليصبح وثيقة أدبية تعكس مظاهر التحضر والرقي الاجتماعي لبعض الفترات.


نشأة الطرديات وتطورها:

نشأ فن الطرديات في فترة مبكرة من تاريخ الشعر العربي، لكنه بلغ أوجه وازدهاره في فترة لاحقة:

  • النشأة الجاهلية: وُلد فن الطرديات في العصر الجاهلي، حيث كان الصيد جزءًا أصيلاً من الحياة البدوية ووسيلة لكسب العيش. كانت الطرديات الجاهلية تتسم بالخشونة والواقعية في تصوير المطاردة.
  • الازدهار العباسي: ترعرع ونما هذا الفن بشكل هائل في العصر العباسي. تحول الصيد في هذا العصر من مجرد ضرورة إلى هواية ملكية ورياضة يمارسها الخلفاء والأمراء وكبار القوم، مما وفر بيئة خصبة للشعراء لتفصيل مشاهد الصيد والإشادة بها.

أبو نواس: سيد الطرديات بلا منازع

يُجمع النقاد على أن أبا نواس (الحسن بن هانئ الحكمي) هو أكبر شعراء الطرديات وأكثرهم تمثيلاً لـرقي وتحضر هذه الهواية في العصر العباسي:

  • كمية الإنتاج وجودته: خلف أبو نواس نحو خمسين طردية، تتميز جميعها بـالجودة العالية والوصف الدقيق.
  • التركيز على صيد الكلاب: على عكس ما كان شائعًا لدى القدماء الذين كانوا يفضلون الصيد على الفرس (الخيل) وربما يقبّحون كلاب الصيد، دارت أكثر طرديات أبي نواس حول صيد الكلاب تحديدًا، مما يبرز التطور في أدوات الصيد.

الكلب في الطرديات النواسية: رمز للبراعة والوفاء

خصص أبو نواس مساحة واسعة في طردياته لـتصوير الكلب، رافعاً من مكانته ومظهراً براعته بشكل استثنائي:

  • تصوير القوة والجمال: لم يكن وصف الكلب عادياً، بل كان تصويراً قوياً، يخلع عليه الشاعر أجمل الأوصاف التي تتجاوز مجرد القوة البدنية لتشمل الشجاعة، والخفة، والبراعة الفائقة في الوثوب على الفريسة واقتناصها.
  • التفاصيل الوصفية للكلب: وصفه أبو نواس بأنه واسع الشدقين (الفم)، طويل الخد، ويتميز بـالسرعة الفائقة في الجري لدرجة أنه يكاد لا يلمس الأرض، مما يجعل صيده مضموناً وناجحاً بامتياز.
  • عناية المالك (الشاعر): يصور أبو نواس شدة عناية واهتمام صاحبه (الذي يمثل الشاعر نفسه) بهذا الكلب، حيث يصف أنه يبيت بجانبه في البيت. ويصل الاهتمام إلى حد أن المالك إذا أصابه البرد أو تعرّى، قام بـكسائه بـبُرده (ثوبه) لكيلا يصيبه أي مكروه، في دلالة على المحبة والمكانة التي حظيت بها هذه الحيوانات.
  • مثال شعري: يصف أبو نواس كلبه قائلاً:

"أنْعتُ كلباً ليس بالمـسْبوق + مُطهمًا يجرى على العُرُوقِ جاءتْ به الأمْلاك من سَلوق + كأنَّه في المِقْود المَمْشُوقِ"
يُشير هذا الوصف إلى أصالة الكلب وجماله (مُطهمًا)، وسرعته، وأصله النبيل (من سَلوق)، وجماله وقوامه (المَمْشُوق).

شعراء آخرون في فن الطرديات:

لم يكن أبو نواس وحيداً في هذا الميدان، فقد شاركه شعراء آخرون في العصر العباسي في نظم الطرديات، منهم:

  • علي بن الجهم: اشتهر كذلك بنظمه في غرض الطرديات.
  • ابن الرومي: كان له الكثير من الطرديات التي ساهمت في إثراء هذا الفن الشعري.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال