الطائفة الدرزية: كشف النقاب عن البدايات الفاطمية، أدوار حمزة بن علي والدرزي، التنظيم الاجتماعي، وطبيعة السرية الدينية

نشأة وتطور العقيدة الدرزية: رحلة من السرية إلى الانتشار

تُعد العقيدة الدرزية من الديانات المتميزة والغامضة في آن واحد، والتي تعود أصولها إلى بدايات القرن الحادي عشر الميلادي في قلب الشرق الأوسط. نشأت هذه العقيدة في بيئة مضطربة شهدت تنوعًا دينيًا وثقافيًا، مما أثر بشكل كبير في تشكيل معتقداتها وممارساتها.


الجذور التاريخية والتأسيس:

بدأت قصة العقيدة الدرزية بالظهور في الفترة ما بين 1017 و1018 ميلادية، في زمن الدولة الفاطمية في مصر وسوريا. كان حمزة بن علي بن محمد الزوزني هو الشخصية المحورية في تأسيس هذه الدعوة. يُعتقد أن حمزة كان شخصية ذات نفوذ فكري وروحاني كبير، وقد ادعى أنه خليفة النبي محمد وأن روح الله قد تجلت فيه. لم يكن هذا الادعاء شائعًا في عصره فحسب، بل كان نقطة تحول رئيسية في مسار تأسيس هذه العقيدة الجديدة.

بدأ حمزة بن علي في نشر دعوته بشكل منهجي، مستقطبًا الأتباع من خلفيات دينية متنوعة، بما في ذلك المسلمون والمسيحيون واليهود. هذه القدرة على جذب أتباع من طوائف مختلفة تشير إلى جاذبية تعاليمه وقدرته على إحداث صدى لدى شرائح واسعة من المجتمع. في عام 1017، أعلن حمزة عن عقيدة جديدة ومستقلة تستند إلى مجموعة من التعاليم الخاصة التي قدمها، والتي تطورت لاحقًا لتصبح ما يُعرف اليوم بـ "العقيدة الدرزية".


المعتقدات الأساسية للعقيدة الدرزية:

تتميز العقيدة الدرزية بكونها نظامًا إيمانيًا فريدًا يضم مجموعة من المعتقدات المتميزة التي تميزها عن الديانات الإبراهيمية الأخرى.

  • توحيد الله المطلق: يؤمن الدروز بشكل صارم بوجود إله واحد أحد، لا شريك له ولا مثيل. هذا التوحيد هو جوهر العقيدة الدرزية، حيث يُنظر إلى الله على أنه الكلي الوجود والقدرة، والمتعالي عن كل صفات البشر.
  • تجسيد الله وحلوله: أحد أكثر المعتقدات تميزًا في العقيدة الدرزية هو الإيمان بأن الله قد تجسّد في عدد من الشخصيات البارزة على مر العصور. من بين هؤلاء، يُذكر آدم، نوح، إبراهيم، موسى، عيسى، ومحمد. كما يؤمن الدروز بأن روح الله قد حلت في شخصيات معينة، أبرزها حمزة بن علي بن محمد الزوزني نفسه، المؤسس الفعلي للعقيدة. يُفهم هذا الحلول على أنه تجلي للذات الإلهية في هيئات بشرية لإرشاد البشرية.
  • التناسخ (انتقال الأرواح): يؤمن الدروز بشكل راسخ بـ التناسخ، أو ما يُعرف بانتقال الأرواح. وفقًا لهذا المبدأ، لا تفنى الروح بالموت الجسدي، بل تنتقل من جسد إلى آخر في دورة مستمرة من الولادة والوفاة. يعتقد الدروز أن هذه العملية هي وسيلة للروح لتطهير نفسها واكتساب المعرفة والخبرة اللازمة للوصول إلى الكمال الروحي.
  • وحدة الأديان: يحمل الدروز معتقدًا عميقًا بـ وحدة الأديان، حيث يرون أن جميع الأديان السماوية تنبع من مصدر إلهي واحد وتؤدي في النهاية إلى الله. يعتبر هذا الموجه الفكري أساسًا للتسامح والتعايش مع أتباع الديانات الأخرى، على الرغم من الطابع السري للعقيدة الدرزية.


انتشار العقيدة الدرزية والمناطق الجغرافية:

شهدت العقيدة الدرزية انتشارًا ملحوظًا وسريعًا في مناطق واسعة من الشرق الأوسط بعد تأسيسها. أصبحت واحدة من الطوائف الدينية الرئيسية في المنطقة، لا سيما في بلاد الشام. في الوقت الحاضر، ينتشر الدروز بشكل كبير في عدة دول، أبرزها لبنان، سوريا، الأردن، وإسرائيل. في هذه الدول، يشكل الدروز مجتمعات متماسكة تحافظ على هويتها الثقافية والدينية الفريدة، ولهم دور سياسي واجتماعي مهم في بعضها.

الشخصيات المحورية في تأسيس العقيدة الدرزية:

تأثرت العقيدة الدرزية وتطورت بفضل جهود شخصيات رئيسية ساهمت في صياغة تعاليمها ونشرها:
  • حمزة بن علي بن محمد الزوزني: يُعتبر المؤسس الفعلي للعقيدة الدرزية. كان له الدور الأبرز في صياغة تعاليمها ونشر دعوته، وهو المؤلف الرئيسي للكتب المقدسة الدرزية. يُنظر إليه على أنه المظهر الأول لروح الله في العصر الحديث.
  • محمد بن إسماعيل الدرزي: كان أحد أبرز تلاميذ حمزة بن علي. اشتهر بإعلانه لألوهية الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، وهو ما أحدث انقسامًا كبيرًا داخل الطائفة الدرزية، وأدى إلى ظهور فروع مختلفة منها. هذا الانقسام كان له تأثير عميق على تاريخ العقيدة الدرزية وتطورها.
  • نشتكين الدرزي: وهو تلميذ آخر لحمزة بن علي، ساهم بشكل كبير في تدوين ونشر تعاليم العقيدة الدرزية من خلال تأليف العديد من الكتب والمصنفات التي وثقت مبادئها.


الكتب المقدسة في العقيدة الدرزية:

تمتلك العقيدة الدرزية مجموعة من الكتب المقدسة التي تُعد المصادر الأساسية لتعاليمها ومعتقداتها:

  • كتاب الحكمة (رسائل الحكمة): يُعد هذا الكتاب هو المصدر الأساسي والأكثر أهمية في العقيدة الدرزية. يتضمن تعاليم حمزة بن علي بن محمد الزوزني، ويحتوي على جوهر الفلسفة الدرزية ومبادئها الروحية والأخلاقية. يُعتقد أنه يحمل تفسيرات باطنية للقرآن الكريم والشرائع الأخرى.
  • كتاب النور: يتناول هذا الكتاب موضوعات تتعلق بـ الخلق والوجود، ويقدم رؤية درزية للكون وبداياته وأسراره.
  • كتاب التوحيد: يركز بشكل خاص على مبدأ التوحيد المطلق لله، ويشرح أبعاده وعمق معناه في العقيدة الدرزية.
  • كتاب المناظرات: يتضمن هذا الكتاب حوارات ومناظرات أجراها حمزة بن علي بن محمد الزوزني مع معارضيه ومشككيه، ويُظهر الجدل الفكري الذي أحاط بنشأة العقيدة الدرزية.


الشعائر الدينية والممارسات الدرزية:

على الرغم من إيمان الدروز بالله الواحد وتأكيدهم على وحدة الأديان، إلا أن شعائرهم الدينية تختلف بشكل كبير عن تلك الموجودة في الإسلام التقليدي. غالبًا ما تتميز هذه الشعائر بالسرية ولا تُمارس علنًا إلا بين أفراد الطائفة.

  • الصلاة: يُصلي الدروز خمس مرات في اليوم، لكن شعائر صلاتهم وطريقتها تختلف عن صلاة المسلمين. تركز صلواتهم على الجانب الروحي والتأملي، وغالبًا ما تتم في أماكن خاصة تُعرف بـ "الخلوات".
  • الصوم: يصوم الدروز شهر رمضان، لكن شعائر صومهم تختلف أيضًا عن شعائر المسلمين. يركز الصوم الدرزي على الانقطاع عن الملذات الحسية والتفرغ للتأمل الروحي والتفكير.
  • الحج: يحج الدروز إلى مقامات حمزة بن علي بن محمد الزوزني ومحمد بن إسماعيل الدرزي، بالإضافة إلى مقامات أخرى لشخصيات درزية مقدسة. هذه الأماكن تُعد مراكز روحية للحجاج الدروز.
  • الزكاة: يدفع الدروز زكاة، ولكن نظام زكاتهم يختلف عن نظام الزكاة الإسلامي التقليدي. غالبًا ما تكون هذه الزكاة موجهة لدعم أبناء الطائفة المحتاجين ولتلبية احتياجات مجتمعاتهم.


التنظيم الاجتماعي والسرية الدرزية:

يُقسم المجتمع الدرزي تقليديًا إلى طبقتين رئيسيتين، مما يعكس الهيكل الهرمي والمبني على المعرفة الدينية:

  • طبقة الموحدين (العقّال): تُعد هذه الطبقة هي الطبقة العليا، وتضم رجال الدين والعلماء وأصحاب المعرفة العميقة بالعقيدة الدرزية. يُعرفون بـ "العقّال" لتميزهم بالحكمة والفهم العميق للتعاليم الدينية. يُسمح لهم بالاطلاع على جميع الكتب المقدسة والتعاليم السرية.
  • طبقة المريدين (الجهّال): وهي الطبقة الدنيا، وتضم عامة الناس الذين لا يُسمح لهم بالاطلاع على التفاصيل الكاملة للعقيدة أو الكتب المقدسة. يُطلب منهم الالتزام بالمبادئ الأخلاقية العامة للعقيدة الدرزية ولكنهم ليسوا بالضرورة على دراية كاملة بجميع أسرارها.

تُعرف الطائفة الدرزية بدرجة عالية من السرية والكتمان. لا يُسمح للدروز بنشر معتقداتهم أو شعائرهم خارج الطائفة، وتُعد هذه السرية جزءًا أساسيًا من هويتهم الدينية. هذه الميزة أدت إلى الحفاظ على العقيدة الدرزية نقية من التأثيرات الخارجية، ولكنها أيضًا ساهمت في غموضها وعدم فهم الكثيرين لها.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال