نموذج لكتابة مقال نقدي.. على دروب الشمس للأستاذ عبدالفتاح أبو مدين



نموذج لكتابة مقال نقدي:

أعترف وأنا أكتب هذه السطور، بأن صديقي الأستاذ/ محمد هاشم رشيد / شاعر مجيد، قرأت وسمعت منه قصائد جيدة في سنين مضت، قبل وبعد إخراجه ديوانه الأول "وراء السراب"، ففي شعره قوة التعبير والتحليق البعيد والخيال الـمجنح، والأسلوب السلس الـمتين، فهو شاعر مجدد ينحو منحى شعراء الـمهجر والبلاد العربية من الـمبرزين، وله نفس يطول في بعض الـمواقف حتى يصل إلى الـملاحم، وهو من طلائع شعراء الـمدينة الـمنورة، بعيد الصوت لأنه يعنى بشعره، تنميقًا ومعاني وأخيلة وبراعة صور، هكذا عهدته وعرفته ومازال رأيي فيه شاعرًا مجيدًا.

وقد أفضل فأهدى إلي ديوانه الأخير، "على دروب الشمس" الذي صدر عن نادي الـمدينة الأدبي، في طباعة أنيقة على ورق صقيل. وليصدقني أخي الشاعر أنني افتقدت "الحرارة" التي عرفتها فيه، في كثير من قصائد ديوانه هذا، بصرف النظر عن كون أكثر قصائد الديوان قيلت في مناسبات مختلفة، وفي أوقات مختلفة كذلك، أو يرجع بعضها إلى تسع عشرة سنة خلت، ومنها الجديد وليد عام أو أكثر، وليس بد من أن أعلن لصاحبي أنه لم يثرني في ديوانه هذا سوى قصيدتين، إحداهما: "صدى الهجرة" والثانية: "أنا وابني والعيد"، وكذلك أبيات متناثرة في بعض القصائد.

وكم وددت.. لو أنه مضى في نشيده الجميل "صدى الهجرة " فأطال هذه القصيدة، ولم يقف بها عند العقبة، وهو قادر على أن يزيد فيها من وحي السيرة العطرة ليضمخ نفوسنا بنشيد عبق، عبر مسيرة الدعوة الخالدة التي أنقذت البشرية من الظلمات إلى نور الهداية. وهي ليست "ثورة" كما يسميها الشاعر، ولكنها دعوة إلى الخير، خير الإنسانية وسعادتها، وانتشالها من الظلام إلى توحيد الله وحده.
وأنا لست مع الشاعر في قوله:
لك يا صاحبي مطالع لحن -- أَبَـدِيّ الإيـقاع والأنـغـامِ

وهو يعني بهذا الوصف، رفض النبي محمد صلى الله عليه وسلم لدعوة قومه، حين عرضوا على عمه أبي طالب أن يسودوا ابن أخيه عليهم إذا شاء، وأن يجمعوا له الـمال، بشرط أن يكف عن الدعوة التي جاء إليهم بها، وهي عبادة الله وحده ونبذ ما عدا ذلك، فقال عليه السلام قولته الـمشهورة: "والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الدين لـما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه".

وهذا الجواب الحكيم لا يعبر عنه بأنه مطالع لحن، وإيقاع وأنغام، ولكنه الجواب السديد والثبات على الأمر، والتمسك بمهام الرسالة وأعبائها لأنها إرادة الله.

ويستعمل الشاعر، كلمة "السكب" في غير موضعها، وهي لا تستعمل إلاّ للماء والكلام، وذلك في قوله من قصيدة "صدى الهجرة " وفي غيرها:
لم يزلْ يسكب اللهيب ويَسري -- ثــورة في  مـنابـر الإسلام

وربما قبلت من باب المجاز، ولكن لا تقبل كلمة "ثورةً" مكان دعوة.
وكلمة "المختار" في البيت التالي، رغم أننا لا نختلف في معناها إلا أنها دعت لها القافية.. لإكمال البيت:
فاسألوا "الشِّعب"عن سِنيِّ الحصارِ -- كيف مرت بمعشر الـمختار

واستعمل الشاعر كلمة يصدح ، وكان الأولى أن يكون يصدع، وذلك في:
ونداء السماء يصدح رغم السِّجـ -- ـنِ والشوكِ  واللظى  والقيودِ

ولو استعمل الشاعر كلمة " صَبَّ " مكان سَكَبَ، التي يكررها في هذه القصيدة لأصاب كثيرًا، "وصَبَّ" استعملت في الكتاب العزيز للماء وللعذاب، وعن الاستعمال الثاني، يقول الله تعالى: (فصب عليهم ربك سوط عذاب) وقال جل شأنه: (ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الجحيم).

ويقول شاعرنا:
هـو  عـام، ويلـتـقي  الأحــبــاب -- هو عام، فأين أين العذاب
اسكبوه كما تشاؤون فالنصـ -- ـرُ قريبٌ وفي غدٍ لــي مآب

وكلمة "سكب" رقيقة، لا تصلح في التعبير عن التعذيب، والتعبير القرآني دقيق وحسبك أنه من عند الله، نزل على أفصح العرب، وعلى قوم عرفوا بالبلاغة والفصاحة، فكان الحجة التي لا تدمغ، وقد عجزوا أمام تحديات القرآن الذي نزل بلغتهم فلم يستطيعوا أن يأتوا بمثله، ولو بسورة أو آية.

وقصـيدة "أنا وابني والعيد" قلت: إنها مما شدني.. في هذا الديوان، ومعها "صدى الهجرة" وهما قصيدتان جيدتان.
وفي هذه القصيدة أنا وابني والعيد، يتحدث الشاعر عن ابنه الطفل فيقول:
لم يعش كما عشنا بأعماق اللهيب -- لا ولم يبصر من الكون سوى اللون الحبيب

وكلمات (سوى اللون الحبيب) عبارة عن حشو أفسد البيت وأفقد معناه، والقصيدة جيدة في مجملها .. بلا ريب، فهي تصوير جميل، وليس ذلك غريبًا على شاعر موهوب متمرس.

وأنا لا أريد أن أثقل على أخي الشاعر محمد هاشم رشيد في الوقوف على ديوانه، "على دروب الشمس" ذلك أن أكثر قصائده لم تعجبني، لأنها تفقد الحرارة والعمق اللذين يشدان القارئ الجيد، وقد عهدته الشاعر الـمجيد، ولا أريد أن أغضبه، وكان في مقدوري أن أقول كلمة عابرة ليس فيها معنى سوى الـمجاملة عن ديوانه هذا، ولكني آثرت الصدق، فلا أبخسه حقه ولا أغالطه، وحسبه منى الحب، وهو ما دعاني إلى الوفاء إليه في هذه الكلمة عن ديوانه الجيد.

وعسى أن نقرأ لشاعرنا من جيد شعره ما هو له أهل، وعسى أن تنشط فيه الدوافع، وهو ناضج منذ زمن بعيد، وهو في تقديري بعيد عن مراحل الكهولة التي تجنح إلى الركود والخمود، وما تزال فيه حرارة.

الشباب: قوته ودوافعه، والشاعر لا يشيخ قلبه، فهو فتًى  يتجدد كل يوم مع الحياة وأحداثها وصروف الدهر.