الصين: تحولات جذرية في السياسة السكانية لمواجهة تحديات النمو الديموغرافي
شهدت الصين تحولًا جذريًا في سياستها السكانية منذ مطلع السبعينيات، وذلك في استجابة مباشرة للتحديات الهائلة التي فرضها النمو السكاني المتسارع. بعد عقود من تشجيع النسل لتعويض خسائر الحروب والمجاعات ودعم التنمية، وجدت الدولة نفسها أمام واقع اقتصادي واجتماعي ضاغط يتطلب نهجًا معاكسًا تمامًا، يتمثل في تحديد النسل.
من تشجيع النسل إلى ضرورات تحديد النسل: انقلاب في السياسة الديموغرافية
بعد نجاح الثورة الصينية عام 1949، تبنت الحكومة سياسة واضحة لدعم وزيادة النسل. كان الهدف من هذه السياسة هو إعادة بناء القوة البشرية بعد عقود من الصراعات المدمرة، وتوفير الأيدي العاملة اللازمة لدفع عجلة التنمية الاقتصادية في ظل الفلسفة الشيوعية التي كانت ترى في العدد الكبير من السكان قوة وطنية.
ومع ذلك، أدت هذه السياسة، إلى جانب تحسن الظروف الصحية والمعيشية، إلى زيادة سكانية هائلة وغير مستدامة. بحلول مطلع السبعينات، أصبحت هذه الزيادة تُشكل عبئًا كبيرًا، منعكسًا سلبًا على:
- التنمية الاقتصادية: الضغط على الموارد المحدودة، وزيادة البطالة، وصعوبة توفير فرص عمل كافية.
- الوضعية الاجتماعية: نقص في الخدمات الأساسية مثل التعليم، الرعاية الصحية، والإسكان، مما أثر على جودة حياة المواطنين.
- الضغط البيئي: تدهور البيئة وزيادة التلوث بسبب الأنشطة البشرية المتزايدة.
هذه التحديات أجبرت الدولة على اتخاذ إجراءات جديدة ومناقضة تمامًا لسياسات ما بعد الثورة، بهدف التقليل من حجم الزيادة السكانية، أو ما عُرف لاحقًا بسياسة تحديد النسل (أو سياسة الطفل الواحد).
الإجراءات المتخذة لتحديد النسل: مزيج من الحوافز والعقوبات والتوعية
تبنت الحكومة الصينية مجموعة شاملة من الإجراءات لتطبيق سياسة تحديد النسل، والتي شملت مزيجًا من التشريعات، التوعية، والحوافز والعقوبات الصارمة:
-
تحديد سن الزواج: للمساعدة في تأخير الإنجاب وتقليل العدد الإجمالي للمواليد، تم تحديد سن الزواج قانونًا. فقد أصبح 25 سنة للذكور و23 سنة للإناث. هذا الإجراء يهدف إلى تقليل عدد السنوات الإنجابية للزوجين، وبالتالي تخفيض معدل الخصوبة الكلي.
-
توفير وسائل تحديد النسل مجانًا: لضمان سهولة الوصول إلى خيارات تحديد النسل، قامت الدولة بـتوفير مختلف الوسائل الخاصة بتحديد النسل مجانًا للمواطنين. شمل ذلك حبوب منع الحمل، اللولب (IUD)، والإجراءات الجراحية مثل ربط البوق للأنثى وقطع القناة الدافقة للذكر (التعقيم). كان الهدف هو إزالة الحواجز المالية والاقتصادية أمام الأفراد الراغبين في تنظيم الأسرة.
-
تشجيع عائلات الطفل الواحد وتسليط عقوبات صارمة: كانت هذه السياسة هي الأكثر شهرة والأكثر إثارة للجدل. فقد تم تشجيع العائلات التي تنجب طفلًا واحدًا من خلال حوافز مادية واجتماعية. في المقابل، فُرضت عقوبات صارمة على العائلات التي تنجب أكثر من طفل واحد دون الحصول على إذن خاص، ومن أبرز هذه العقوبات:
- الفصل من العمل: قد يُفصل أحد الزوجين أو كلاهما من وظيفتهما.
- الحرمان من الاستفادة من التعليم المجاني: يُمكن حرمان الطفل الزائد عن العدد المسموح به من الحق في التعليم المجاني.
- الحرمان من الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية: تُحرم العائلة من بعض أو كل مزايا الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية.
- الحرمان من روض الأطفال المجانية أو المدعومة: مما يزيد العبء المالي على الأسر.
- الغرامات المالية الباهظة: فُرضت غرامات مالية كبيرة على المخالفين، تُعرف بـ "رسوم الدعم الاجتماعي".
-
تقديم مساعدات للأزواج الذين يقبلون التعقيم: لتشجيع تحديد النسل طويل الأمد والنهائي، قدمت الدولة مساعدات وحوافز للأزواج الذين يقبلون إجراء عملية التعقيم بعد إنجاب الطفل الأول. كانت هذه المساعدات تشمل مكافآت مالية أو تسهيلات في الحصول على خدمات معينة.
-
التوعية الشاملة: إلى جانب الإجراءات القسرية، أولت الدولة اهتمامًا كبيرًا بـالتوعية السكانية. نُفذت حملات توعية واسعة النطاق في المدارس، الأرياف، والجامعات، بهدف غرس مفهوم الأسرة الصغيرة، وتوضيح الفوائد المترتبة على تحديد النسل على مستوى الفرد والأسرة والدولة.
-
منح بطاقة "الطفل الواحد": كجزء من آليات المراقبة والحوافز، كان مكتب التخطيط العائلي يمنح بطاقة خاصة تُسمى "بطاقة الطفل الواحد" للأزواج الذين يتعهدون كتابيًا بعدم إنجاب أكثر من طفل واحد. حملة هذه البطاقة كانوا يستفيدون من حوافز إضافية ومزايا خاصة.
تحديات التنفيذ: أهداف لم تتحقق بالكامل
على الرغم من الصرامة والشمولية التي اتسمت بها هذه الإجراءات، إلا أن النص يشير إلى أن "هذه الإجراءات لحد الآن لم تحقق الأهداف التي سطرتها الدولة" بالكامل. هذا الفشل النسبي يُعزى غالبًا إلى عدة عوامل، منها:
- المقاومة الثقافية والاجتماعية: خاصة في المناطق الريفية، حيث كانت القيم التقليدية التي تُعلي من شأن الأسرة الكبيرة وإنجاب الذكور أقوى من التدخلات الحكومية.
- التطبيق غير المتكافئ: واجهت السياسة تحديات في تطبيقها بفعالية في جميع أنحاء البلاد، حيث كانت هناك تباينات في مستوى الصرامة والرقابة.
- الآثار الجانبية غير المقصودة: مثل الاختلال في التوازن بين الجنسين بسبب تفضيل إنجاب الذكور، وارتفاع معدلات الإجهاض الانتقائي، ووجود "الأطفال السود" (غير المسجلين).
- نقص الوعي الحقيقي: على الرغم من حملات التوعية، لم تتغير القناعات الأساسية لدى قطاعات واسعة من المجتمع.
باختصار، تُظهر تجربة الصين في تحديد النسل تعقيد التفاعل بين السياسات الحكومية الصارمة والعوامل الثقافية والاجتماعية المتجذرة، مما يُسلط الضوء على أن التحكم في ديناميكيات السكان يتطلب أكثر من مجرد إصدار القوانين.