الخيال السوسيولوجي ومسؤولية الباحث: رؤية "رايت ميلز" النقدية لدور العلم في المجتمع – تحليل للالتزام الاجتماعي وسبل تجنب الانحراف

مسؤوليات الباحث العلمي في الفكر النقدي: رؤية "رايت ميلز" في "الخيال السوسيولوجي"

يُقدم عالم الاجتماع الأمريكي البارز تشارلز رايت ميلز (C. Wright Mills) في كتابه المؤثر "الخيال السوسيولوجي" (The Sociological Imagination) رؤية نقدية عميقة لمسؤوليات والتزامات الباحث العلمي. ضمن إطاره النقدي، يؤكد ميلز على أن دور الباحث ليس مجرد تجميع للحقائق، بل يتشكل ويتأثر بشكل جوهري بالسياق الاجتماعي والتاريخي الذي يعمل فيه، والذي يفرض بدوره ضغوطاً وتحديات على المؤسسات الأكاديمية وبالتالي على الباحثين أنفسهم. هذه الرؤية تدعو إلى فهم أعمق لدور العلم في المجتمع، وكيف يمكن أن يصبح أداة للتغيير أو، على النقيض، للجمود.

الالتزام الاجتماعي للباحث كمنتج للمعرفة:

يُشدد ميلز بقوة على مبدأ الالتزام الاجتماعي (Social Commitment) للباحث العلمي. يرى أن الباحث، بصفته محترفاً في إنتاج المعرفة، لا يجب أن يُوجه بحوثه نحو تحقيق أهداف شخصية أو خدمة مصالح خاصة. بل يجب أن يُسخر علمه لفهم وتحليل المشكلات الاجتماعية الأوسع. هذا الالتزام يتطلب منه تجنب الانحراف في العلم قدر الإمكان، والابتعاد عن استخدام المعرفة لأغراض غير أخلاقية أو لتعزيز الأجندات الضيقة (ميلز، 1986: 324). بعبارة أخرى، يرى ميلز أن العلم يجب أن يكون في خدمة الحقيقة والمجتمع، وليس أداة في يد القوى المهيمنة أو لتحقيق مكاسب ذاتية.

لتحقيق هذا الالتزام وتجنب الانحراف، يقترح ميلز مجموعة من الآليات المحددة التي تُشكل دليلاً للباحث العلمي المسؤول:

1. الابتعاد عن الجدل السوسيولوجي العقيم:

يحث ميلز الباحثين على تجنب الانغماس في النقاشات النظرية المجردة أو الخلافات المنهجية التي لا تُفضي إلى فهم أعمق للواقع الاجتماعي أو تقديم حلول عملية. يرى أن هذه الجدالات قد تُبعد الباحث عن قضايا المجتمع الحقيقية وتُفقده القدرة على التأثير الإيجابي.

2. تحديد المفاهيم بوضوح:

يؤكد على أهمية الدقة والوضوح في تعريف المفاهيم المستخدمة في البحث السوسيولوجي. الغموض المفاهيمي يُمكن أن يُؤدي إلى سوء فهم، أو إلى استنتاجات خاطئة، أو حتى إلى توجيه البحث نحو قضايا لا تُسهم في فهم الواقع. يجب أن تكون المفاهيم أدوات تحليلية واضحة وقابلة للتطبيق.

3. استخدام الأسلوب المقارن في شرح البناء الاجتماعي:

يُشجع ميلز الباحثين على تبني المنهج المقارن عند تحليل الأبنية الاجتماعية. فمقارنة المجتمعات أو الظواهر الاجتماعية في سياقات مختلفة تُساعد على فهم العوامل المشتركة والمتغيرة، وتُمكن من استخلاص تعميمات أكثر دقة حول كيفية عمل هذه الأبنية وتأثيرها على الأفراد.

4. دراسة الأبنية الاجتماعية العامة التي تنظم الأوساط الصغيرة بدلاً من عزل كل وسط على حدة:

يدعو ميلز إلى رؤية شمولية تتجاوز دراسة الحالات الفردية أو "الأوساط الصغيرة" بمعزل عن سياقها الأوسع. يجب على الباحث أن يُركز على فهم الأبنية الاجتماعية الكبرى (Macro-structures) مثل الطبقات الاجتماعية، النظم السياسية، المؤسسات الاقتصادية، وكيف تُؤثر هذه الأبنية العامة في حياة الأفراد وتجاربهم في الأوساط الصغيرة. هذا يساعد على ربط المشكلات الفردية بالقضايا الهيكلية الأوسع.

5. وضع صورة الإنسان تاريخياً نصب عينيه:

يؤكد ميلز على ضرورة أن ينظر الباحث إلى الإنسان ليس ككائن مجرد، بل ككائن تاريخي مُتأثر بالظروف التي عاشها، والتي صاغت هويته وسلوكه. فهم الإنسان في سياقه التاريخي يُعد أساسياً لفهم دوافعه، قيمه، وتحدياته، ويُمكن الباحث من تقديم تحليلات أكثر عمقاً وواقعية.

6. عدم الانعزال عن التراث العلمي:

يحذر ميلز الباحثين من تجاهل التراكم المعرفي السابق في مجالهم. فالانعزال عن التراث العلمي يُمكن أن يُؤدي إلى إعادة اكتشاف ما هو معروف، أو إلى الوقوع في نفس الأخطاء، أو إلى نقص في الفهم النظري والمنهجي. يجب على الباحث أن يبني على ما سبقه من أعمال وأن يُساهم في إثراء هذا التراث (Mills, 1970 : 129-151).

7. عدم فهم المشكلات العامة بالطريقة التي يدركها الفرد وألا يؤثر ذلك على اختياره وتحديده للمشكلات:

يُعد هذا النقطة جوهر "الخيال السوسيولوجي" نفسه. يُشجع ميلز الباحثين على التمييز بين "المشكلات الخاصة" للفرد (Personal Troubles) و"المشكلات العامة" للمجتمع (Public Issues). فالمشكلة الفردية، مثل البطالة لشخص واحد، قد تكون مشكلة خاصة به. لكن عندما يُصبح ملايين الأشخاص عاطلين عن العمل، تُصبح "مشكلة عامة" تُشير إلى قصور هيكلي في النظام الاقتصادي. يجب على الباحث أن يرى الارتباط بين الاثنين، وأن يُركز على المشكلات العامة، وأن يتجنب أن تُؤثر رؤيته الشخصية أو تجربته الفردية على تحديد واختيار المشكلات البحثية ذات الأهمية الاجتماعية الأكبر.

خلاصة:

في الختام، تُقدم رؤية رايت ميلز في "الخيال السوسيولوجي" نموذجاً للباحث العلمي النقدي والملتزم. إنها دعوة للباحثين ليس فقط لإنتاج المعرفة، بل ليكونوا فاعلين ومسؤولين في استخدام هذه المعرفة لخدمة المجتمع، وتحدي الوضع الراهن، وفهم الروابط المعقدة بين التجارب الفردية والأبنية الاجتماعية الأوسع. هذا الالتزام يضع على عاتق الباحث مسؤولية أخلاقية تتجاوز مجرد التحصيل الأكاديمي، وتُعلي من قيمة العلم كأداة للوعي والتغيير.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال