البنيوية وتحليل رولان بارت: من الوظيفة إلى موت المؤلف
1. رولان بارت وتحديد البنية السردية (الوظائف)
يعتبر عمل رولان بارت في (مقدمة لتحليل القصص) امتداداً لجهود سابقة في السرديات، لكنه يمثل قفزة نوعية في تطبيق المنهج البنيوي عليها.
أ. الإفادة من بروب وتعميم المفهوم:
لم يكتفِ بارت باستحضار وظائف بروب، التي كانت مقتصرة على حكايات الخرافة الشعبية، بل قام بـتعميم مفهوم "الوظيفة" على كل أشكال القصص الأدبية، من الرواية إلى الأسطورة. لقد عرّف بارت الوحدة القصصية الصغرى على أنها (وظيفة) لكونها عنصراً لا يمكن تبرير وجوده إلا بقدرته على الدخول في علاقة مع وحدات أخرى أو بكونه عنصراً ضرورياً لإنجاز فعل لاحق. هذا التركيز على العلاقات والضرورة البنائية هو جوهر البنيوية.
ب. اكتمال المنظومة الفنية:
إن تأكيد بارت على أن "الفن منظومة نقية، وأنه ليس هناك وحدة ضائعة" هو تطبيق مباشر للمبدأ البنيوي القائل بالـكلانية (Wholeness). فالبنية، حسب البنيويين، هي نظام يشتمل على كل عناصره، وأي تغيير في عنصر واحد يؤثر بالضرورة على النظام بأكمله. هذا يعني أن الناقد البنيوي يفترض مسبقاً أن النص الأدبي مكتمل داخلياً ولا يحتوي على حشو أو تفاصيل عارضة، بل كل جزء فيه يخدم البنية الكلية.
الأهداف الجوهرية للبنيوية في النقد الأدبي:
وضعت البنيوية نصب أعينها هدفاً أساسياً يتمثل في تحقيق "علْمنة الأدب"، أي إضفاء طابع علمي موضوعي على دراسة النصوص الأدبية. كان الغرض من هذا التوجه هو تجاوز الأحكام الذاتية، والانطباعية، وخصوصاً التفسيرات المُغرضة أو الإيديولوجية التي قد تشوه الممارسة النقدية وتُبعدها عن النص ذاته.
لتحقيق هذه الغاية، ركز البنيويون على ثلاثة محاور رئيسية في دراسة الأعمال الأدبية:
- دراسة أبنية العمل الأدبي: تحليل العلاقات الداخلية بين مكونات النص، وكيفية ترابطها لتشكل بنية متكاملة.
- وظائفها الجمالية: الكشف عن الكيفية التي تؤدي بها هذه الأبنية وظائفها الجمالية والفنية داخل النص.
- اختبار لغة الكتابة: رصد مدى تماسك اللغة، وتنظيمها المنطقي والرمزي، وتحديد قوتها وضعفها، مع إهمال فكرة أن النص يجب أن يعكس حقيقة خارجية بالضرورة.
رفع البنيويون شعاراً حاسماً يلخص منهجهم: "النص، ولا شيء غير النص". هذا يعني أن البحث النقدي ينبغي أن يكون في داخل النص فقط، للكشف عن العناصر التي تُشكّل أدبيته، أي طابعه الأدبي المتفرد، دون اللجوء إلى عوامل خارجية كظروف حياة المؤلف أو السياق التاريخي والاجتماعي.
المبادئ المحورية في الفكر البنيوي:
قام الفكر البنيوي على مبادئ أساسية فصلت النقد الأدبي عن المؤثرات الخارجية:
1. النص الأدبي ككيان مادّي تام ومُنغلق:
- الانغلاق الذاتي: البنيوية تعتبر أن دراسة الأعمال الأدبية هي عملية تتم في ذاتها، بمعزل عن المحيط الذي أنتجت فيه (مثل تاريخ الكاتب، أو سياقه الاجتماعي). فالنص الأدبي مُنغلق في وجه كل التأويلات التي تعطيه أبعاداً اجتماعية، نفسية، أو تاريخية لم ترد فيه بشكل صريح.
- المادية اللغوية: النص مادّيٌّ في كونه قائماً بالأساس على اللغة؛ أي على الكلمات والجمل كعناصر محسوسة يمكن تحليلها بشكل موضوعي.
2. موت المؤلف وسيادة اللغة:
- جاء مبدأ آخر مهم على لسان رولان بارت في مقالته الشهيرة «موت المؤلف»، التي نُشرت ضمن كتابه «نقد وحقيقة». حيث قال: "اللغة هي التي تتكلم، وليس المؤلف".
- هذا التصور يدعو إلى إلغاء شخصية الكاتب كمرجعية وحيدة للمعنى، لكي يتولّد المعنى من تفاعل القارئ مع اللغة وبنية النص ذاتها، بعيداً عن قصدية المؤلف وأي مؤثرات خارجية.
تجدر الإشارة إلى أن بعض الدارسين يعتبرون مقالة «موت المؤلف» نقطة تحول، وبداية لأولى مراحل النقد الذي تجاوز البنيوية نحو ما يعرف باسم ما بعد البنيوية (Post-structuralism)، نظراً لأنها فتحت الباب واسعاً أمام حرية القارئ والتعددية الدلالية.
