أصول الدولة الصفوية: كشف الستار عن الجدل التاريخي حول النسب الحسيني، الجذور السنية للشيخ صفي الدين، والهوية الكردية مقابل التركية

نسب الصفويين: جدل تاريخي بين ادعاء آل البيت والأصول العرقية

يُعد نسب الأسرة الصفوية، التي حكمت بلاد فارس (إيران حاليًا) لقرون، من أكثر القضايا إثارة للجدل بين المؤرخين والباحثين. فبينما ادعت السلالة الصفوية انتسابها إلى آل البيت النبوي الشريف، تحديدًا إلى الإمام حمزة بن موسى الكاظم (بعد حوالي 20 جيلًا)، تُشير العديد من المصادر والتحقيقات الحديثة إلى تشكيك كبير في صحة هذا الانتساب، وإلى أصول عرقية ومذهبية مختلفة.


ادعاء الانتساب إلى آل البيت: "صفوة الصفا" وتحريفاته

إن المزاعم المتعلقة بانتساب الصفويين إلى آل البيت اعتمدت بصورة رئيسية على مصادر كُتبت بعد تأسيس الدولة الصفوية. من أهم هذه المصادر كتاب "صفوة الصفا" لمؤلفه درويش توكلي بن إسماعيل، المعروف بابن البزاز، والذي أُلّف سنة 757 هجرية.

لكن ما يُثير الشكوك هو ما حدث لهذا الكتاب في عهد الشاه طهماسب الأول (930 – 984 هـ). فقد أمر الشاه بتنقيح محتويات الكتاب، أو بالأحرى بتغييرها وتحريفها. يُقال إن الشاه كان يُحب أن يُدعى "طهماسب الصفوي الحسيني الموسوي"، ولتحقيق هذا الادعاء، أمر المُنقحين بـإثبات أصل انتساب العائلة إلى آل البيت.

من أوائل المحققين الذين كشفوا عن وقوع هذا التحريف المؤرخ التركي زكي وليد طوغان. يُشير طوغان إلى أن كتاب "صفوة الصفا" قد حُرف، على الأقل، حتى قبل أمر الشاه طهماسب بتنقيحه، وأن من قام بهذا التحريف المبكر هو أبو الفتح الحسيني. (للتوسع، يمكن الرجوع إلى كتاب غلام رضا مجد، "ابن بزاز أردبيلي"، ص 22).


التشكيك في الانتساب: أصوات المؤرخين المحققين

لم يكن زكي وليد طوغان الوحيد الذي شكك في هذا النسب. يُلحق الكاتب والمحقق الإيراني البارز أحمد كسروي نفسه بقافلة المشككين في ادعاء الصفويين بالانتساب إلى آل البيت. يؤكد كسروي بشكل قاطع أن كتاب "صفوة الصفا" قد حُرف ليُلائم ادعاءات الصفويين (انظر كتابه "شيخ صفي وتبارش" أي "الشيخ صفي ونسبه"، الصفحات 59 إلى 65).

يُقدم ابن البزاز في كتابه أسماء أجداد الشيخ صفي الدين، مؤسس الطريقة الصفوية، على النحو التالي: "الشيخ صفي الدين أبو الفتح إسحاق ابن الشيخ أمين الدين جبرئيل ابن الصالح قطب الدين أبو بكر ابن صلاح الدين رشيد ابن محمد الحافظ لكلام الله ابن عواض ابن بيروز الكردي السنجاني فيروزشاه زرين كلاه ابن محمد شرهشاه...". هذا التسلسل يفتقر إلى أي ربط واضح بذرية الأئمة.

يُعزز المحقق الشهير أحمد كسروي تشكيكه في أصل انتساب العائلة الصفوية إلى آل البيت بالاعتماد على وثائق حُبرت قبل تأسيس الدولة الصفوية وفي زمن الشيخ صفي الدين نفسه. يؤكد كسروي أن هذه الوثائق والعهود لم تذكر في أي سند أو لقب ما يدل على انتساب الشيخ صفي الدين إلى آل البيت.

يُشارك المؤرخ الإيراني المعروف نصر الله فلسفي هذا الرأي، حيث يُذكر في سفره الضخم عن "حياة الشاه عباس الأول" أنه لم يكن أي من أجداد الصفويين قبل الشيخ حيدر يُطلق على نفسه لقب "السيد"، وهو لقب يُستخدم للدلالة على النسب النبوي. بل على النقيض، كان يُطلق على الشاه إسماعيل نفسه لقب "شيخ أوغلو" أو "شيخ زاده"، أي "ابن الشيخ"، وكان هو نفسه يُطلق على نفسه في أشعاره ألقابًا مثل "خطائي" و"غلام حيدر أو – جاكر - خادم قنبر"، والتي لا تُشير إلى أي نسب علوي.


الأصل المذهبي والعرقي للصفويين: تحولات وشكوك

لم يقتصر الجدل على النسب الحسيني فحسب، بل امتد ليشمل الأصل المذهبي والعرقي للصفويين.


الأصل السني للشيخ صفي الدين:

يُشارك المحقق بطروشفسكي والمؤرخ الإيراني إقبال آشتياني في الرأي الذي يُشكك في انتساب الشيخ صفي الدين أردبيلي إلى التشيع. يؤكد أحمد كسروي أن الشيخ صفي الدين كان سنيًا بلا شك، لكن أخلاف الشيخ، وبعد تغيير مذهبهم (إلى التشيع)، أرادوا أن يُظهروا الشيخ صفي الدين وكأنه شيعي مثلهم لتبرير مشروعيتهم المذهبية.

يُعزز بطروشفسكي هذا الرأي بقوله: "الآن نمتلك أدلة موثقة ودالة على أن مذهب أوائل شيوخ الصفوية لم يكن المذهب الشيعي". ويُؤكد الكاتب والخبير في الدراسات الإيرانية رومر أنه "ليس هنالك أدنى شك بأن الشيخ صفي كان سنيًا". ويُضيف رومر ملاحظة لافتة للنظر، وهي أن الشيخ صفي كان شافعي المذهب، ويُشير إلى أن أصول هذا المذهب أقرب إلى التشيع من باقي مذاهب أهل السنة الثلاثة الأخرى (الحنفية والمالكية والحنبلية)، ربما في بعض الجوانب الفقهية أو الروحية.


تحول مذهب الشيخ صفي الدين: فرضية جديدة

على الرغم من الإجماع النسبي على سنية الشيخ صفي الدين، يُقدم النص فرضية فريدة تُشير إلى احتمال تغيير الشيخ صفي الدين أردبيلي لمذهبه السني بعد لقائه بشيخه ووالد زوجته لاحقًا، وهو الشيخ تاج الدين زاهد كيلاني "لاهيجاني". هذا الشيخ، المعروف أيضًا بـتاج الدين إبراهيم الكردي السنجاني، وشهرته الشيخ زاهد گيلاني (615-700 هـ / 1218-1301 م)، يُقال إن لقاءه بالشيخ صفي الدين في مقتبل عمر الأخير (قبل تجاوز الخامسة والعشرين) شكّل مرحلة تحول جذري في حياته.

يُروى أن الشيخ زاهد كيلاني قد رأى في صفي الدين أردبيلي "تحقيقًا لأحلامه ومظهرًا لتفكُّراته وآماله". بل ويُبشر مريديه بقدوم صفي الدين بقوله: "أيها المريدون بشرى لكم فقد عطف بنا شيخ المعصومين والعارف بعلوم أسرار رب العالمين بقدوم الشيخ صفي الدين أردبيلي إلى هذه البقعة". والأكثر إثارة، أنه يذكر لمريديه نظرة مستقبلية لما سيؤول إليه حال أولاد الشيخ صفي الدين أردبيلي، فيقول في مكان آخر: "أولاد هذا الشيخ سيحكمون العالم وسيعلو شأنهم يومًا بعد يوم حتى ظهور "قائم آل محمد" سيدنا المهدي الهادي عليه السلام وسيُقلع كاف الكفر من الأرض". هذا الربط بين ذرية صفي الدين وظهور المهدي يُشير إلى رؤية ذات طابع شيعي واضح. وما يُعزز هذه القرينة هو أن الشاه إسماعيل، عندما فر من أعدائه وهو طفل، لجأ هو ومريدو أبيه إلى منطقة لاهيجان، وهي نفس المنطقة التي شهدت اللقاء الأول والمثير بين الشيخ زاهد كيلاني والشيخ صفي الدين أردبيلي. بناءً على هذه القرائن، يُفترض أن الشيخ صفي الدين أردبيلي قد تحول إلى التشيع، خلافًا للرأي الشائع.


الأصل العرقي للصفويين: الكردي أم التركي؟

بالإضافة إلى الجدل المذهبي، هناك تساؤلات حول الأصل العرقي للصفويين. يؤكد المؤرخ والمحقق الإيراني أحمد كسروي أن الصفويين ينتسبون إلى القومية الكردية. ويُشير إلى أنهم رحلوا من موطنهم الأصلي في ناحية سنجار – كردستان – واستقروا لاحقًا في أذربيجان. وقد أيد المؤرخ التركي زكي وليد طوغان هذا القول، مما يُشير إلى أن هذا الرأي يحظى بقبول بين بعض الباحثين.

ومع ذلك، يُقدم النص حجة مُضادة لكونهم من أصل تركي، بالاستدلال على قصة أوردها ابن البزاز تُظهر احتقار الشيخ صفي الدين للأتراك. يُروى أنه عندما سأل صدر الدين (ابن الشيخ صفي الدين) والده عن سبب عدم استخدامه للأقمشة والهدايا التي أرسلتها له "قتلغ ملك بنت السلطان كيخاتو"، أجابه الشيخ: "... لأنها تحمل اسم التركي بالإضافة إلى اسم الملك والأمير لذا فإن قلبي لا يرضى بذلك...". تُقدم هذه القصة، إن صحت، دليلًا على عدم اعتزاز الشيخ صفي الدين بالنسب التركي، مما يُعزز فكرة أصولهم الكردية.

في الختام، يظل نسب الصفويين وأصولهم المذهبية والعرقية موضوعًا ثريًا للبحث التاريخي، تتداخل فيه الروايات الرسمية مع التحقيقات النقدية، مما يُثري فهمنا لإحدى أهم السلالات الحاكمة في التاريخ الإسلامي.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال