الفشل في الاكتساب وتعلم الاستجابات الخاطئة: كيف يفسر النموذج السلوكي الصحة النفسية والمرض، ودور التعزيز والإشراط في تشكيل الاضطراب

النموذج السلوكي للاضطرابات النفسية: التعلم والبيئة كمحددات للصحة والمرض

تُعد المدرسة السلوكية إحدى النماذج الرائدة في علم النفس التي تقدم تفسيراً للاضطرابات النفسية يركز بشكل أساسي على السلوك الملحوظ وعلاقته بالبيئة وعمليات التعلم. بخلاف النماذج التي تركز على العوامل الداخلية (مثل اللاوعي أو البيولوجيا)، يرى السلوكيون أن السلوكيات السوية وغير السوية هي في الغالب نتاج للتفاعلات المكتسبة مع المحيط.


مفهوم الاضطراب والصحة النفسية في المنظور السلوكي

يركز المنظور السلوكي على أن الاضطرابات النفسية ليست نتاجاً لعوامل داخلية أو صراعات لا شعورية أو اختلالات عضوية بقدر ما هي نتاج مباشر للتعلم الخاطئ أو الفشل في اكتساب المهارات السلوكية الضرورية للحياة.

تعريف الاضطرابات النفسية:

تتلخص الاضطرابات النفسية وفقاً للسلوكيين في ثلاثة مسارات رئيسية:

  • الفشل في اكتساب الاستجابة المناسبة: يعني هذا أن الفرد لم يتعلم السلوكيات أو المهارات الضرورية للتعامل بفعالية مع مواقف الحياة المختلفة. على سبيل المثال، الفشل في تعلم مهارات التأكيد على الذات (Assertiveness) قد يؤدي إلى القلق الاجتماعي أو الاكتئاب.
  • تعلم استجابة خاطئة (غير سوية): يتمثل ذلك في اكتساب الفرد لسلوكيات تكيفية غير صحية أو مدمرة. مثال ذلك هو تعلم استجابة القلق الشديد أو الخوف المرضي (الفوبيا) تجاه محفزات غير ضارة في الأصل، أو تعلم آليات التجنب كوسيلة للتعامل مع الضغوط.
  • الوجود في صراع سلوكي: ينشأ هذا النوع من الاضطراب عندما يجد الفرد نفسه في موقف يتطلب منه الاختيار بين استجابتين متعارضتين بنفس القوة، مما يسبب شللاً في اتخاذ القرار وإحساساً بالعجز.

مفهوم الصحة النفسية:

في المقابل، تُرادف الصحة النفسية من وجهة النظر السلوكية قدرة الفرد على اكتساب وتطبيق عادات واستجابات مناسبة ومكيفة بشكل فعال. هذا يتضمن:

  • القدرة على التفاعل الاجتماعي السليم مع الآخرين.
  • القدرة على اتخاذ القرارات المناسبة بمرونة في مواقف الحياة المتغيرة.

الآليات السلوكية المفسرة للاضطراب (عمليات التعلم):

يرى السلوكيون أن السلوكيات غير السوية تتشكل وتستمر عبر عمليات التعلم الأساسية، أبرزها التعزيز، والعقاب، والإشراط.

أولاً: التعزيز والعقاب (الإشراط الإجرائي)

يُمكن أن تؤدي نتائج السلوك (التعزيز أو العقاب) إلى نشأة الاضطراب النفسي واستمراريته:

  • التعزيز كمُشكل للاضطراب: قد يتعلم الفرد سلوكاً غير مرغوب فيه لأن هذا السلوك يُعزز بطريقة ما. على سبيل المثال:

  1. قد يصبح القلق أو المرض سلوكاً معززاً إذا كان يؤدي إلى الحصول على اهتمام مفرط، أو رعاية خاصة، أو تجنب مسؤوليات صعبة.
  2. في هذه الحالة، يصبح الاكتئاب أو القلق "وسيلة" لا "مرضاً داخلياً"، لأن البيئة توفر حوافز (تعزيزات) لاستمرار هذا السلوك.
  • العقاب: التعرض المتكرر والمستمر للعقاب أو التجارب السلبية قد يؤدي إلى تطوير سلوكيات الاكتئاب أو العجز المتعلم، حيث يتعلم الفرد أن أفعاله لا تحدث أي فرق في تجنب النتائج السلبية.

ثانياً: الاستجابة الشرطية (الإشراط الكلاسيكي)

يُمكن للإشراط الكلاسيكي أن يفسر بشكل خاص اضطرابات القلق والفوبيا:

  • يحدث الاضطراب عندما يقترن مُحفز محايد (مثل مكان مغلق، أو حشد من الناس) بمُحفز آخر يثير الخوف أو القلق بشكل طبيعي (مثل التعرض لهجوم، أو الشعور بالاختناق).
  • بعد التكرار، يصبح المحفز المحايد (المكان المغلق) قادراً على إثارة استجابة القلق بمفرده، مُشكلاً فوبيا (رهاب). يتمثل الاضطراب هنا في تعميم هذه الاستجابة الشرطية غير الملائمة.

العلاج السلوكي: تطبيق مبادئ التعلم للتغيير

بما أن الاضطرابات النفسية هي نتاج للتعلم، فإن العلاج السلوكي يهدف إلى إلغاء تعلم الاستجابات الخاطئة وإعادة تعلم الاستجابات السوية والمكيفة. يعتمد العلاج بشكل أساسي على مبادئ التعلم الإجرائي والكلاسيكي لتعديل السلوك غير السوي.

تقنيات العلاج السلوكي: تطبيق مبادئ التعلم في الممارسة

يعتمد العلاج السلوكي على مبدأ أساسي مفاده أن الاضطرابات النفسية هي نتاج للتعلم الخاطئ، ولذلك يجب استخدام تقنيات تعلم جديدة لتعديل أو إلغاء السلوكيات غير المرغوبة. وفيما يلي استعراض لأبرز التقنيات المستخدمة في هذا النوع من العلاج وأهدافها:

1. التعرض (Exposure Therapy):

تُعد هذه التقنية حجر الزاوية في علاج اضطرابات القلق والرهاب (الفوبيا). يهدف التعرض إلى إلغاء استجابة الخوف الشرطية من خلال تعريض المريض بشكل مُتكرر ومُنظَّم للموقف أو الحدث الذي يخاف منه ويتجنبه. الهدف الأساسي هو إيقاف آلية التجنب التي تُعزز الخوف، والسماح للمريض بالتعلم بأن المحفز المخيف لا يؤدي إلى نتائج سلبية، مما يؤدي تدريجياً إلى إطفاء (Extinction) استجابة القلق.

2. إزالة الحساسية التدريجية (Systematic Desensitization):

تُعتبر هذه التقنية شكلًا مُنظَّمًا من التعرض، وتعتمد على مبدأ الاقتران المضاد. تبدأ العملية بتعليم المريض كيفية الوصول إلى حالة من الاسترخاء العميق. بعد ذلك، يُعرَّض المريض تدريجياً لسلسلة هرمية من المواقف المخيفة (تبدأ بالأقل خوفاً وتنتهي بالأكثر خوفاً) وهو يحافظ على حالة الاسترخاء. الهدف هو استبدال استجابة القلق المرتبطة بالموقف باستجابة الاسترخاء، مما يقلل من حساسية الفرد تجاه المحفزات المخيفة تدريجياً.

3. التعلّم الاجتماعي (Social Learning):

تهدف هذه التقنية إلى مساعدة المريض على اكتساب وتطوير المهارات الاجتماعية الضرورية للتفاعل الفعال والإيجابي مع الآخرين. يتم ذلك غالباً من خلال استخدام النمذجة (تقليد سلوك المعالج أو شخص آخر ناجح اجتماعياً) والتدريب على لعب الأدوار، مما يمكن المريض من ممارسة السلوكيات الجديدة في بيئة آمنة قبل تطبيقها في الحياة الواقعية.

4. التدريب على حل المشكلات (Problem-Solving Training):

تركز هذه التقنية على مساعدة المريض في بناء قدراته على اتخاذ القرار بدلاً من الاستسلام لمشاعر العجز أو الإحباط. يُعلّم المريض خطوات منهجية لتحديد المشكلات التي يواجهها في حياته، وتوليد قائمة من الحلول الممكنة، وتقييم إيجابيات وسلبيات كل خيار، ثم تنفيذ واختبار أفضل الحلول. الهدف النهائي هو تزويد المريض بأداة إدراكية-سلوكية فعالة للتعامل مع تحديات الحياة اليومية.


تقييم العلاج السلوكي:

مزايا العلاج السلوكي:

  • فعالية مثبتة: أثبت العلاج السلوكي، وخصوصاً أشكاله الحديثة مثل العلاج المعرفي السلوكي (CBT)، فعاليته القوية في علاج طيف واسع من الاضطرابات، بما في ذلك القلق، الاكتئاب، الرهاب، والوسواس القهري.
  • سرعة النتائج: يمكن ملاحظة تحسن إيجابي في السلوكيات المستهدفة في فترة زمنية قصيرة نسبياً مقارنة ببعض الأساليب العلاجية الأخرى.
  • سهولة التطبيق والقياس: نظراً لتركيزه على السلوكيات الملحوظة والقابلة للقياس، يمكن تطبيق تقنياته وتقييم فعاليتها بسهولة في إعدادات مختلفة (عيادات، مستشفيات، مدارس).

عيوب العلاج السلوكي:

  • قد لا يكون مناسباً للجميع: قد يجد بعض المرضى صعوبة في الالتزام بتقنيات التعرض أو التدريب السلوكي التي تتطلب جهداً كبيراً.
  • التغاضي عن العوامل الداخلية: النقد الرئيسي الموجه للنموذج السلوكي الصرف هو إهماله المحتمل لدور العمليات المعرفية (الأفكار والمشاعر) والعوامل البيولوجية الأساسية في تكوين الاضطراب.

في الختام، يمثل النموذج السلوكي إطاراً قوياً ومفيداً لتفسير الاضطرابات النفسية من منظور التعلم والبيئة، وقد أدت التقنيات العلاجية المستمدة منه إلى إحداث ثورة في مجال الصحة النفسية، مما يوفر أدوات عملية وقابلة للقياس لمعالجة السلوكيات غير السوية.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال