النقد اللغوي: المنهج المؤسس للفن الأدبي؛ تحليل نظرية قرن نعمة العزاوي حول اللغة كحقيقة أولى للنقد، واستعراض مقاييس الخطأ والصواب والجودة والرداءة في التراث النقدي العربي القديم

النقد اللغوي عند العرب: اللغة كأصل للنقد الفني والأدبي

يُعد كتاب "النقد اللغوي عند العرب حتى نهاية القرن السابع الهجري" للباحث العراقي قرن نعمة رحيم العزاوي مرجعًا محوريًا يؤسس لنظرية مفادها أن اللغة هي المادة الأساسية والفعل الحقيقي للفن الأدبي. يرى العزاوي أن اللغة ليست مجرد وسيلة، بل هي الحقيقة الأولى التي ينطلق منها الناقد، وأن نبوغ الأديب وتفوقه يرتكزان كليًا على طريقته في استخدام اللغة والتعامل معها.


أولاً: اللغة كأساس ومنطلق للنقد

يضع العزاوي اللغة في صميم العملية النقدية، معتبراً إياها محل عبقرية الأديب وإبداعه:

  • اللغة مادة الإبداع: يرى العزاوي أن الموضوع الأول والأساسي للنقد هو اللغة، لأنها الماهية التي يتجسد فيها الفن الأدبي. وبالتالي، فإن الكثير من قضايا النقد وموضوعاته، مثل ماهية الشعر، وغايات الأدب، ووحدة الموضوع، والخصومة، والخيال، والموازنات، والسرقات، والطبع والتكلف، والصدق والكذب، يمكن معالجتها جميعًا من خلال المنظور اللغوي.
  • إدراك النقاد العرب للحقيقة اللغوية: يؤكد العزاوي أن النقاد العرب الأوائل أدركوا هذه الحقيقة، وأولوا اللغة اهتماماً بالغاً. وقد برزت عبقرية الناقد العربي، كـ ابن الأثير مثلاً، في قدرته على استكشاف دقائق اللغة، وأسرار الألفاظ والتراكيب، مما جعل اللغة تمثل محاور أساسية للنقد والأدب.

ثانياً: المنهج اللغوي: الملائمة والأصول

اعتبر العزاوي أن المنهج اللغوي هو المنهج الأكثر ملاءمة لطبيعة العمل الأدبي، لكونه القادر على استكشاف ملامح الاستخدام الفني للغة وتفرد الأديب:

  • تعريف المنهج اللغوي: أوضح العزاوي أن العرب عرفوا المنهج اللغوي في النقد. هذا المنهج يهدف إلى إبراز جمالية اللغة الأدبية في ضوء القواعد والأصول الفنية.
  • العوامل المؤثرة في النقد اللغوي: درس العزاوي العوامل التي ساهمت في تشكيل وتطور النقد اللغوي حتى القرن السابع الهجري، وأهمها:

  1. الرواية (الاستقاء): التي تتعلق بجمع اللغة الأصلية وحفظها.
  2. التطور اللغوي: وما يرافقه من تدقيق في اللحن والإعراب، وظهور الثنائيات والتمازج اللغوي.
  3. التعصب القديم والخصومة: كعاملين محفزين للنقد، سواء كان تعصباً للغة الفخمة أو خصومة شخصية أو مذهبية.
  4. الإعجاز القرآني والأدبي: الذي كان عاملاً أساسياً في البحث عن الأسرار والقوانين التي تقاس بها بلاغة النصوص والأساليب.
  • هدف المنهج اللغوي: كان الهدف الأسمى للمنهج اللغوي هو تنمية لغة الأدباء والنهوض بأساليبهم، وإمدادهم بالعبارات المناسبة، وتنبيههم إلى مناسبة كل لفظ للمقام الذي يقال فيه، بهدف التخفيف من الازدواج اللغوي الحاصل جراء التطور اللغوي.

ثالثاً: مقاييس النقد اللغوي (الجودة والرداءة)

قسم العزاوي المقاييس النقدية التي أثارها النقد اللغوي إلى ضروب أساسية تحكم الحكم على النصوص:

  • مقاييس الخطأ والصواب: تركز هذه المقاييس على سلامة العمل المنقود من الخطأ، ومطابقته للقواعد اللغوية المألوفة والمعهودة، وتشمل التفحص في بنية الكلمة، والمثنى والجمع، والاشتقاق، واستعمال الكلمات، والإعراب، والتعريف والتنكير، والتعدي واللزوم، وغيرها من القضايا النحوية والصرفية.
  • مقاييس الجودة والرداءة: تتعلق هذه المقاييس بالجوانب الجمالية والفنية، وتظهر في:
  1. المفردات: من حيث الجزالة، السهولة، الرقة، الغرابة، موسيقى اللفظ، الإيحاء، والتلاؤم بين اللفظ والمعنى.
  2. التراكيب: من حيث الانسياب، والموسيقى والإيقاع، والوضوح والغموض، ووحدة النسج، أي كيفية تآلف الجمل والعبارات بشكل فني.

رابعاً: قيمة النقد اللغوي وعيوبه

لم يغفل العزاوي تحليل قيمة النقد اللغوي، مبيناً فوائده ونقاط ضعفه:

فوائد النقد اللغوي:

  • الحماية والتنمية: ساهم في حماية اللغة وتهذيبها وتنميتها، وتوسيع قياسها بقبول المعرب والدخيل.
  • التوجيه والتصحيح: عمل على تصحيح الأخطاء، والإرشاد إلى الحسن والأحسن في التعبير، والكشف عن أسرار التعبير الأدبي وخصوصيته.
  • رصد الظواهر: ساهم في رصن بعض الظواهر اللغوية مثل الغريب والنوادر والتطور اللغوي للمفردات.

مآخذ وعيوب النقد اللغوي:

  • الجمود والتزمت: ظهرت عيوبه في الاحتكام المفرط للقديم والتقيد الصارم بالعرف اللغوي، وعدم التفريق بين الخطأ والتطور اللغوي.
  • الفصل بين الشكل والمضمون: كان أبرز العيوب هو الفصل بين اللفظ والمعنى (الشكل والمضمون)، والتركيز على الجزئية في النص المنقود دون مراعاة السياق الكلي للعمل الأدبي، وهو ما أكد العزاوي على ضرورة تجاوزه.
  • التحيز والجهل: ارتبطت بعض العيوب بالتعصب للمنشئ أو عليه، أو بجهل بعض النقاد بمراد الشاعر أو بالإعراب.

خامساً: تأكيد على التكامل المنهجي

في الختام، يوضح العزاوي العلاقة التكميلية بين المنهج اللغوي والمناهج النقدية الأخرى:

  • الدعم الأكاديمي: أشاد العزاوي بدعوة محمد مندور (مصر) إلى المنهج اللغوي، والتي ظهرت في كتابيه "في الميزان الجديد" (1952) و"النقد المنهجي عند العرب" (1956)، مما يدل على تعاضد النقاد والباحثين في العناية بهذا المنهج.
  • الأداة النقدية: يرى العزاوي أن ما ينفع الناقد ويجعله قادراً على مواجهة اللغة هو علم اللغة ونظرياتها ومناهج فقهها، لأنها تزوده بالعلم الكافي وتجعله أبصر بأسرار اللغة وأقدر على استخراج طاقاتها التعبيرية. يؤكد هذا على أن النقد اللغوي ليس مجرد لغة، بل هو أساس المنهج النقدي ويتعالق مع المناهج الفنية والتاريخية والنفسية.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال