شرح وتحليل المقامة البشرية لبديع الزمان الهمذاني: حكاية صراع الأنا وكبرياء البلاغة
تُعد المقامة البشرية لبديع الزمان الهمذاني واحدة من المقامات التي تُبرز فن السرد البارع، واللغة الفخمة، والشخصيات المركبة التي تتأرجح بين البطولة والضعف. على خلاف بعض المقامات التي يُركز فيها على شخصية أبي الفتح الإسكندري كبطل بلاغي محتال، تُقدم هذه المقامة شخصية محورية جديدة، هي بشر بن عوانة العبدي، الذي يُمثل الصعلوك الشجاع والمغوار، لكنه يقع في فخ الكبرياء الذي يقوده إلى مواقف تُظهر حقيقة قوته وحدودها، ليختتم بمفارقة حكيمة.
1. بداية المقامة: بشر الصعلوك والزوجة الجميلة
تبدأ المقامة بتقديم الراوي عيسى بن هشام لشخصية بشر بن عوانة العبدي، واصفًا إياه بأنه صعلوك، وهي كلمة تُشير إلى الشجاعة والإقدام والفروسية المقترنة غالبًا بالفقر والغزو. يروي كيف أغار بشر على قافلة (ركب) ووقع بصره على امرأة جميلة، فتزوجها على الفور قائلاً: "مَا رَأَيْتُ كَالْيَومِ"، في إشارة إلى إعجابه الشديد بجمالها أو ربما سهولة حصوله عليها.
هذه الزوجة، على الفور، تُظهر دهاءً وحيلةً تُثير الدهشة. تُريد أن تختبر حب بشر أو ربما تزيد من لهفته، فتبدأ في وصف امرأة أخرى بجمال فائق، هي ابنة عمه فاطمة. تُقدم وصفها في أبيات شعرية:
- "أَعْجَبَ بِشْراً حَوَرٌ في عَيْنِي / وَسَاعِدٌ أَبْيَضُ كالُّـلـجَـيْـنِ" - تُشير إلى مواطن جمالها الظاهر.
- "وَدُونَهُ مَسْرحَ طَرْفِ العَـيْـنِ / خَمْصَانَةٌ تَرْفُلُ فَي حِجْلَـينِ" - تُلمح إلى قسَمات جسدية دقيقة وممشوقة.
- "أَحْسَنُ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْليَنِ" - مبالغة في الوصف العام للجمال.
- "لَوْ ضَمَّ بِشْرٌ بَيْنَهَا وَبَـيْنـي / أَدَامَ هَجْرِي وَأَطَالَ بَـيْنِـي" - تحدٍّ صريح بأن فاطمة أجمل منها لدرجة أن بشر سيهجرها لو رأى الأخرى.
- "وَلَوْ يَقِيسُ زَيْنَهَـا بِـزَيْنِـي / لأَسْفَرَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ" - لو قارن جمالهما، لبان جمال فاطمة كوضوح الصبح.
هذا الوصف المثير يدفع بشرًا إلى سؤالها عن هوية هذه المرأة، وعندما تخبره أنها "بنت عمك فاطمة"، تُؤكد له أنها "أزْيَدُ وَأَكْثَرُ" من وصفها. هذا التحدي يُثير كبرياء بشر ويُوقظ فيه الرغبة في إثبات ذاته وقوته.
2. غيرة بشر وتهديده: البداية الحقيقية للمغامرة
تُثير كلمات الزوجة غيرة بشر وغضبه، فيُنشد أبياتًا تُعبر عن خيبة أمله ووعيده:
- "وَيْحَكِ يَا ذَاتَ الثَّـنَايَا الـبِـيضِ / مَا خِلْتُنِي مِنْكِ بِمُـسْـتَـعـيضِ" - يُعبر عن عدم توقعه أن تتخلى عنه أو أن يكون بحاجة لغيرها.
- "فَالآنَ إِذْ لَوَّحْتِ بِـالـتَّـعْـرِيضِ / خَلَوْتِ جَوّاً فَاصْفِري وَبِـيِضـي" - تهديد بأنها أصبحت حرة، وليفعل بها ما يشاء.
- "لاَ ضُمَّ جَفْنَايَ عَلى تَـغْـمِـيضِ / مَا لَمْ أُشُلْ عِرْضِي مِنَ الحَضِيضِ" - يُقسم أنه لن ينام حتى يستعيد كرامته التي شعر أنها أُهينت.
هذا الموقف يُبرز الجانب العنيف والمندفع في شخصية بشر، ويُشير إلى أن "الصعلكة" لا تقتصر على الغزو، بل تتجلى في سلوكيات فردية أيضًا.
3. طلب الزواج والمكيدة الخطيرة: مواجهة الأسطورة
يُرسل بشر إلى عمه يخطب ابنته فاطمة، لكن العم يرفض طلبه. يُقسم بشر أنه "لا يُرْعي على أحد" (أي لن يرحم أحدًا) من قوم عمه إن لم يزوجه ابنته. تتوالى مضراته ومظالمه على قوم عمه، مما يدفع رجال الحي إلى عم بشر مطالبين إياه بـ"كف مجنونك".
يُقرر العم التخلص من بشر بطريقة ذكية وغير مباشرة. يُخبر بشر أنه لن يزوجه ابنته إلا بمن يأتي بـألف ناقة مهرًا، ومن "نوق خزاعة" تحديدًا. كانت غاية العم من هذا الشرط هي دفع بشر إلى طريق محفوف بالمخاطر، طريق كان العرب يتجنبونه بسبب وجود أسد ضار يُسمى "داذ" وحية فتاكة تُدعى "شجاع". هذا الطريق يُعتبر "مهلكة" لمن يسلكه، كما يُعبر الشاعر: "أَفْتَكُ مِنْ دَاذٍ وَمِنْ شُجَاعٍ / إِنْ يِكُ دَاذٌ سَيِّدَ السِّبَاعِ / فَإِنَّهَا سَيِّدَةُ الأَفَاعي".
4. بطولة بشر وانتصاره المبدئي: تزايد الكبرياء
يسلك بشر هذا الطريق الخطير دون تردد. يواجه الأسد "داذ" ببطولة خارقة. يُعقر مهره، ثم يختلِط بالأَسَد بسيفه، ويُقطعه. هذه المعركة تُظهر قمة شجاعة بشر وبراعته كمقاتل. بعد انتصاره، يكتب بدم الأسد على قميصه رسالة شعرية إلى ابنة عمه فاطمة، تُخلد بطولته وتُخبر عن نَصره:
- يصف المشهد العنيف للقاء الأسد "هِزَبْرَاً أَغْلَباُ لاقـى هِـزَبْـرَا".
- يصف خوف مهره ثم قتله (عقره) لأنه خانه.
- يُخاطب الأسد، مُبينًا قوته وقوة سيفه الذي أثّر في معارك سابقة ("بِكَاظِمَةٍ غَدَاةَ لَقِيتَ عَـمْـرَا").
- يُقارن قلبه بقلب الأسد، مؤكدًا أنه لا يخشى المواجهة.
- يُوضح الفرق بين غايتيهما: الأسد يبحث عن قوت لأشباله، وبشر يطلب مهرًا لابنة عمه.
- ينهي قصيدته بتصوير لحظة النصر، وكيف أطاح بالأسد، ثم يُعرب عن أسفه لقتل منافسه "جلداً وفخراً"، لكنه يُبرر فعله بأنه كان دفاعًا عن شرفه.
عندما تصل هذه الأبيات إلى العم، يندم على رفضه، ويُدرك قوة بشر وشجاعته. يخاف العم أن تُغتال بشرًا الحيةُ (شجاع) فيُفقد الأمان، فيُسارع في أثره.
5. مواجهة الحية: بطولة أخرى وتصاعد للكبرياء
يُلحق العم بشرًا وهو في أوج المواجهة مع الحية "شجاع". هنا، تُبرز المقامة "حمية الجاهلية" في بشر، حيث يرى عمه يأتي، فيُدخِل يده في فم الحية ويُحكّم سيفه فيها. هذه المبالغة تُظهر عناد بشر وكبرياءه الزائد، وكأنه يُريد إظهار قوته لعمه. يُنشد بشر أبياتًا أخرى تُؤكد بطولته وتهديده لعمه: "بِشْرٌ إِلَى المَجْدِ بَعِيدٌ هَمُّهُ... قدْ ثَكِلَتْهُ نَفْسُـهُ وَأُمُّـهُ"، مؤكدًا أن حياته ثمن لانتصاره.
بعد أن يقتل الحية، يُعلن العم تراجعه عن شرطه ويُخبر بشرًا أنه سيزوجه ابنته. هنا يصل بشر إلى ذروة فخره وكبريائه، "جَعَلَ بِشرٌ يَمْلأُ فَمَهُ فَخْراً".
6. اللقاء الصادم والدرس القاسي: ذروة المقامة
في لحظة غطرسة بشر، يظهر غلام أَمْرَدُ (صغير في السن، لم تنبت لحيته بعد) "كَشِقِّ القَمَرِ" في جماله، مُدججًا بالسلاح، في مشهد مفاجئ يُقلب الموازين. يسخر الغلام من بشر: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يا بِشْرُ! أَنْ قَتَلْتَ دُودَةً وَبَهِيمَةً تمَلأُ ماضِغَيْكَ فَخْراً؟". هذا التحدي يُهين بشرًا ويُصغر من شأنه.
يُقدم الغلام نفسه بعبارات مُربكة ومُخيفة: "اليَوْمُ الأَسْوَدُ والمَوْتُ الأَحْمَرُ". يدور حوار توبيخي بينهما، ثم يكرّ كل منهما على صاحبه. لكن المفاجأة الكبرى هي أن بشرًا لا يتمكن من الغلام، بينما يُمكن الغلام من بشر عشرين طعنة في كليته، ولكن دون أن يُصيبه بأذى حقيقي، وكأنه يُظهر له مدى تفوقه دون الرغبة في قتله: "كُلَّمَا مَسَّهُ شَبَا السِّنانِ حَمَاهُ عَنْ بَدَنِهِ إبِقْاَءً عَلَيْهِ".
بعد هذه الطعنات، يتساءل الغلام بسخرية: "أَلَيْسَ لَوْ أَرَدْتُ لأَطْعَمْتُكَ أَنْيَابَ الرُّمْحِ؟". ثم يُلقي رمحه ويُخرج سيفه ويُضرب بشرًا عشرين ضربة بعرض السيف (دون أن يُصيبه بجروح قاتلة)، وبشر لا يتمكن من رد أي ضربة. هذه اللحظة هي ذروة إذلال بشر وتحطيم كبريائه.
يُقدم الغلام عرضًا لبشر: "سَلِّمْ عَمَّكَ وَاذْهَبْ فِي أَمانٍ". يُوافق بشر، لكنه يُصر على معرفة هوية الغلام. فيكشف الغلام عن مفاجأة صادمة: "أَنَا ابْنُكَ". يُصاب بشر بالدهشة، فهو لم يتزوج قط امرأة بهذه الصفات. فيُوضح الغلام: "أَنَا ابْنُ المَرْأَةِ التِّي دَلَّتْكَ عَلى ابْنَةِ عَمِّكَ".
7. الخاتمة: الحكمة والمفارقة النهائية
يُدرك بشر المفارقة والحكمة، فيُعلنها في بيت شعري يُصبح مثلًا: "تِلْكَ العَصَا مِنْ هَذِهِ العُصَيَّةْ / هَلْ تَلِدُ الحَيَّةَ إِلاَّ الحَـيَّةْ!"، في إشارة إلى أن الابن ورث دهاء الأم وحيلتها.
يُختتم المقامة بقرار بشر أن يحلف "لاَ رَكِبَ حِصاناً، وَلا تَزَوَّجَ حَصَاناً" (في إشارة إلى الفرس والزوجة العفيفة/النبيلة)، مما يدل على تخليه عن حياة الصعلكة والمغامرات، وربما عن كبريائه الزائد. وفي مفارقة أخيرة، يُزوج بشر ابنة عمه (فاطمة) لـابنه (الغلام)، وليس لنفسه، في اعتراف ضمني بتفوق ابنه عليه وبقوة دهاء المرأة.
تحليل الخصائص الفنية للمقامة البشرية:
- السرد القصصي المشوق: تُبنى المقامة على تسلسل أحداث مثيرة ومليئة بالمفاجآت، من مغامرة بشر مع الأسد والحية، إلى ظهوره المفاجئ لابنه الغامض.
- اللغة البديعية: يُوظف الهمذاني لغة غنية بالسجع، الجناس، والطباق، والصور البلاغية التي تُعزز من جمال النص وقوته التعبيرية، خاصة في وصف المعارك وخطابات أبي الفتح وابنه.
- الشخصيات المركبة والمتغيرة: بشر بن عوانة يُمثل نموذجًا للصعلوك الفارس، لكنه يُظهر ضعفًا أمام دهاء المرأة وكبرياءه أمام الشاب، ثم يتعلم درسًا في النهاية. الغلام يُعد شخصية مفاجئة تُكشف عن مستوى أعلى من القوة والذكاء.
- المفارقة والفكاهة: المقامة مليئة بالمفارقات، من الزوجة التي تدفع زوجها للبحث عن أخرى، إلى البطل الذي يُهزم على يد ابنه، ثم يُزوّج ابنة عمه لابنه. هذه المفارقات تُضفي على المقامة طابعًا فكاهيًا وعبرة في آن واحد.
- نقد الكبرياء والغرور: المقامة تُقدم نقدًا ضمنيًا للغرور والكبرياء الذي يُمكن أن يُصيب الأبطال. فبشر، رغم شجاعته، يتعرض للإذلال بسبب فخره الزائد.
- الغاية الإمتاعية والتربوية: تُقدم المقامة متعة القراءة بفضل أحداثها المشوقة ولغتها البديعة. أما الغاية التربوية، فتكمن في الدرس الذي يتعلمه بشر حول التواضع، وحقيقة القوة، ودهاء النساء، وربما تقبل القدر.
خلاصة:
تُعتبر المقامة البشرية لوحة فنية تُجسّد التناقضات الإنسانية بين الشجاعة والغرور، والدهاء والبطولة، وتُقدم حكمة عميقة في قالب قصصي ممتع ومليء بالمفاجآت.
التسميات
مقامات
