المقامة المكفوفية لبديع الزمان الهمذاني: تحليل فني شامل للسرد، والشخصيات، والتوظيف الإبداعي للغة

شرح وتحليل المقامة المكفوفية:

تتناول المقامة المكفوفية لبديع الزمان الهمذاني موضوع الاحتيال والتلون من أجل كسب المال، مقدمة إياه بأسلوب أدبي شيق ومثير. تُعد هذه المقامة مثالاً رائعًا على براعة الهمذاني في السرد، ووصف الشخصيات، وتوظيف اللغة لخلق صورة حية للمجتمع في عصره.


1. السرد والشخصيات:

تبدأ المقامة على لسان الراوي عيسى بن هشام الذي يصف رحلته في بلاد الأهواز، وبحثه عن كل ما هو فريد وجميل في اللغة. يقوده فضوله إلى مجموعة من الناس مجتمعين حول رجل، فيقترب ليرى ما الأمر. هنا، يتم تقديم الشخصية المحورية في المقامة، وهو رجل أعمى مكفوف (مكفوف البصر) يتظاهر بالفقر والعوز.

2. الوصف الدقيق للشخصية:

يستخدم الهمذاني وصفًا دقيقًا ومبالغًا فيه للشخصية، فيصوره على هيئة "حزقة" (قصيرة) "كالقرنبي" (كحيوان القرنبى) في "شملة صوف" بالية، و"يدور كالخذرُوف" (كالنحلة)، معتمدًا على عصا فيها جلاجل، ويخبط الأرض بها على إيقاع موسيقي. هذا الوصف الغريب يثير تعاطف الناس ويجذب انتباههم.

3. فن التسول:

يُظهر الهمذاني من خلال هذه المقامة أحد أشكال التسول التي كانت منتشرة في عصره، وهو التسول باستخدام الشعر والإيقاع. يلقي الرجل المكفوف مجموعة من الأبيات الشعرية التي يصف فيها فقره وديونه وذلته. هذه الأبيات مؤثرة، وتلامس مشاعر السامعين، وتدفعهم إلى العطاء.

  • "يا قَوْمُ قَدْ أَثْقَلَ دَيْنِي ظَهْـرِي": يُثير الشفقة بالحديث عن الديون الثقيلة.
  • "يا قَوْمُ هَلْ بَيْنَكُمُ مِـنْ حُـرِّ / يُعِيُننِي على صُرُوفِ الدَّهْرِ": يُناشد النخوة والشهامة في نفوس السامعين.

4. نقطة التحول:

يتأثر عيسى بن هشام بكلمات الرجل وصوته، فيمد يده ويعطيه دينارًا. هنا تأتي نقطة التحول في المقامة. فالرجل المكفوف، الذي كان يتظاهر بالعجز، يتعرف على صوت الدينار بمجرد لمسه، ويصفه بأبيات شعرية بديعة، واصفًا جماله ولونه الأصفر. هذا التصرف يثير شك عيسى بن هشام، فيقرر أن يتبعه ليكشف حقيقته.

5. الكشف عن الحقيقة:

عندما يجد عيسى نفسه منفردًا بالرجل، يهدده بالكشف عن أمره إن لم يخبره بحقيقته. في تلك اللحظة، يرفع الرجل اللثام عن وجهه، ويكشف عن بصره، ويفاجئ عيسى بن هشام بأنه شيخه أبو الفتح الإسكندري. وهو نفس الشخصية التي كانت تظهر في مقامة سابقة متخفية بهيئة رجل ذي لحية بيضاء، حيث كان يستخدمها لكسب المال.

6. أبو القلمون وفلسفته:

عندما يسأله عيسى بن هشام مستغربًا: "أنت أبو الفتح؟"، يجيب الأخير ببراعة: "أَنَا أَبُو قَلَمُونٍ". "أبو قلمون" هو طائر يتلون بعدة ألوان. بهذا الاسم، يعترف أبو الفتح أنه شخصية متغيرة، تتلون حسب الظروف، وتتكيف مع المواقف المختلفة من أجل كسب المال. وتوضح الأبيات الشعرية التالية فلسفته في الحياة:

  • "فِي كُلِّ لَوْنٍ أَكُـونُ": يؤكد أنه يتقن فن التلون والتمثيل.
  • "أَخْتَرْ مِنَ الكَسْبِ دُوناً": يرى أن الكسب الحرام في هذا الزمان أفضل من العفة والبعد عنه.
  • "زَجَّ الزَّمَانَ بَحُمْـقٍ / إِنَّ الزَّمَانَ زَبُـونُ": يبرر أفعاله بأن الزمان يفرض على الإنسان أن يتصرف بحماقة، وأن الزمن نفسه خادع ومراوغ.
  • "لا تُكَذَبَنَّ بِـعَـقْـلٍ / ما العَقْلُ إِلاَّ الجُنُونُ": يختتم أبو الفتح حكمته بأن العقل في هذا الزمان هو الجنون، وأن التصرف بحكمة وعقلانية في عصر مليء بالاحتيال هو ضرب من الهذيان.


سمات المقامة:

  • السرد القصصي: تُقدَّم الأحداث في إطار قصة مسلية، مع وجود راوٍ وشخصية محورية.
  • السجع والموسيقى اللفظية: يتميز النص بوجود سجع جميل (مثل "الأهواز" و "أصيدها" و "أستزيدها") الذي يضفي على المقامة نغمة موسيقية.
  • المفارقة والفكاهة: تُخلق الفكاهة من خلال المفارقة بين ما يظهر عليه أبو الفتح وما هو عليه في الحقيقة.
  • توظيف الشعر: يدمج الهمذاني الشعر في النثر بأسلوب سلس ليعبر عن الحالة النفسية للشخصيات.

باختصار، تُعد المقامة المكفوفية نموذجًا لأدب المقامات، حيث تجمع بين السرد القصصي، والوصف الدقيق، والفكاهة، والنقد الاجتماعي، وتُظهر براعة بديع الزمان الهمذاني في تصوير شخصية المحتال الذكي، أبي الفتح الإسكندري، الذي يمثل فن التلون من أجل البقاء.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال