التدريس بالأهداف عند روبرت ماجر: عقلنة التعليم وهوس الإجرائية
يُعدّ روبرت ف. ماجر (Robert F. Mager) أحد أبرز روّاد نظرية التدريس بالأهداف، بل يمثل الاتجاه الأكثر تطرفًا وتشددًا فيها. تُعرف فلسفته بـ "التصور السلوكي" للتعليم، الذي يركز بشكل كامل على إجرائية الأهداف و قابلية قياسها وملاحظتها. لم يكن اهتمام ماجر بالجانب الفلسفي للتعليم أو غاياته الكبرى، بل انصب كل تركيزه على سؤال واحد محدد: كيف يمكننا صياغة الأهداف التعليمية بدقة متناهية لضمان تحقيقها وقياس فعاليتها؟
كتاب "كيف نحدد الأهداف التربوية": الدستور الأحمر
تأثر تيار التدريس بالأهداف بشكل كبير بكتاب ماجر الشهير "كيف نحدد الأهداف التربوية"، الذي نُشر عام 1962. ورغم صغر حجمه (حوالي 60 صفحة)، إلا أنه أصبح بمثابة الدستور لهذه الحركة. يمتاز الكتاب بلغة مباشرة ومبسطة، بعيدة عن التعقيدات النظرية، مما يسمح لأي قارئ بفهمه وتطبيق مبادئه في وقت قصير.
يُعرّف ماجر الهدف التعليمي بأنه تعبير عن نية تُعلن عن التغيير الذي يرغب المعلّم في إحداثه لدى التلميذ. بعبارة أخرى، الهدف يصف بدقة ما سيكون التلميذ قادرًا على إنجازه بعد الانتهاء من الدرس أو الوحدة التعليمية. هذا التعريف يضع الأساس لفلسفة ماجر التي تُركز على النتائج السلوكية القابلة للملاحظة.
المكونات الثلاثة للهدف الإجرائي:
لكي يكون الهدف مقبولًا وصحيحًا وفقًا لمنهجية ماجر، يجب أن يتكون من ثلاثة عناصر رئيسية لا يمكن الاستغناء عنها:
1. السلوك النهائي:
يجب أن يُحدد الهدف نوع السلوك الذي سيقوم به التلميذ بعد التعلم. وهذا السلوك لا يجب أن يكون غامضًا أو مجردًا، بل يجب أن يُوصف بأفعال سلوكية محددة وواضحة، يمكن ملاحظتها وقياسها.
- أفعال قابلة للملاحظة: "يُعرّف، يكتب، يحلّ، يقارن، يمسك، يقفز، يحدد، يسمي".
- أفعال غير قابلة للملاحظة: يرفض ماجر استخدام أفعال مثل "يفهم، يدرك، يتذوق، يستوعب"، لأنها أفعال داخلية لا يمكن قياسها بشكل مباشر. فالفهم، على سبيل المثال، يجب أن يترجم إلى سلوك يمكن ملاحظته، مثل "تحديد خصائص الموضوع" أو "تلخيص المحتوى".
2. شروط الإنجاز:
يجب أن يُحدد الهدف الظروف أو السياق الذي سيتحقق فيه السلوك. أي يجب أن يوضح ماهية الأدوات أو الموارد التي ستكون متاحة للتلميذ أو غير متاحة له أثناء الأداء.
- أمثلة على الشروط: "باستخدام الآلة الحاسبة"، "دون الرجوع إلى الكتاب المدرسي"، "من لائحة تحتوي على 35 عنصرًا".
3. معيار الأداء:
يجب أن يتضمن الهدف معيارًا أو مقياسًا للنجاح. هذا المعيار يحدد المستوى الأدنى المقبول للإنجاز، سواء من حيث الكم أو الكيف.
- أمثلة على المعايير: "بنسبة 80% من الإجابات الصحيحة"، "في أقل من خمس دقائق"، "على الأقل 30 عنصرًا من أصل 35".
مثال على هدف إجرائي مكتمل الأركان:
"انطلاقًا من لائحة بـ 35 عنصرًا كيميائيًا (الشرط)، على التلميذ أن يتذكر ويكتب تكافؤ مكونات (السلوك) 30 عنصرًا على الأقل (المعيار)، دون مراجعة أي كتاب (الشرط)."
دوافع منهجية ماجر: العقلنة والفعالية
تنبع فلسفة ماجر من دوافع عملية، بعيدة عن الجدل النظري. يمكن تلخيص هذه الدوافع في النقاط التالية:
- الحد من الغموض: يرى ماجر أن صياغة الأهداف بعبارات سلوكية تقلل من الغموض في العملية التعليمية، وتجعل التواصل بين المعلّم والمتعلّم أكثر وضوحًا وفعالية.
- التخطيط الدقيق: تساعد الأهداف الإجرائية المعلّمين على وضع خطط تعليمية محكمة، وتحديد المسار الصحيح للعملية التعليمية.
- تحسين الجودة والفعالية: يهدف هذا النهج إلى جعل التعليم عملية منهجية ومنظمة، يمكن قياس نتائجها بدقة، مما يضمن تحسين جودة المخرجات التربوية.
نقد منهج ماجر: بين التقنية والقيمة
على الرغم من فعالية منهج ماجر في تحقيق الأهداف المحددة وقياسها، إلا أنه تعرض لانتقادات واسعة. يرى النقاد أن هذا النهج يختزل العملية التعليمية في سلسلة من الأنشطة التقنية الميكانيكية، متجاهلًا الجوانب الإنسانية والقيمية للتعليم.
- اقتصار الدور على التنفيذ: يعتقد النقاد أن هذا النموذج يُقلّل من دور المعلّم، ويحوله إلى مجرد منفّذ لخطط وأهداف صاغها آخرون (المخططون التربويون). هذا التصور يتأثر بأفكار الباحث "بوبيت" الذي قارن التدريس بالإنتاج الصناعي، حيث يتم فصل التخطيط عن التنفيذ.
- إهمال الغايات الكبرى: يُؤخذ على ماجر عدم اهتمامه بالأسئلة الفلسفية والأخلاقية للتعليم، مثل "ما هي الأهداف التي يجب اختيارها؟" أو "ما الغاية من التعليم؟". فهو يرى أن مهمته محصورة في الجانب التقني لكيفية صياغة الأهداف، وليس في تحديدها أو التفكير في غاياتها.
- التعليم جسد بلا روح: يرى النقاد أن التركيز المفرط على السلوك والقياس يُجرّد التعليم من قيمته الجوهرية، ويحوله إلى عملية آلية ميكانيكية. وهذا قد يؤدي إلى إهمال الجوانب الإبداعية، والتفكير النقدي، والنمو الوجداني لدى التلاميذ، لأنها جوانب يصعب قياسها.
في النهاية، يُعدّ منهج ماجر محاولة جذرية لإخضاع التعليم لمبادئ العقلنة والفعالية، وتحويله إلى علم دقيق قابل للقياس. ورغم الانتقادات، يبقى تأثيره واضحًا في المناهج التعليمية الحديثة التي تتبنى صياغة الأهداف السلوكية، وتُسهم في وضوح العملية التعليمية وتحديد نتائجها.
