لم تبرز الولايات المتحدة الأمريكية على مسرح الأحداث في السياسة الدولية إلا منذ الحرب العالمية الثانية لأنها كانت تتبنى سياسة خارجية تقوم على الحياد والانعزال. وعدم التدخل في المشكلات الأوروبية في مقابل منع الأوروبيين من التدخل في العالم الجديد، وقد سميت هذه السياسة بمبدأ مونرو. الذي أعلن في ديسمبر 1823 من قبل رئيس الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك ج. مونرو في خطاب أمام الكونجرس الأمريكي ونص على:
1 ـ يجب على الدول الأوروبية عدم مد نفوذها الاستعماري لأمريكا.
2 ـ تلتزم الولايات المتحدة الأمريكية من جانبها بعدم التدخل في المشكلات أو العلاقات الأوروبية.
وقد تميزت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ببروز كتلتين متنافرتين أشد التنافر، وأصبحت السياسة الدولية في أغلبها تتركز على تكييف النفس مع الصرع السوفيتي الأمريكي. صحيح أن بداية هذا الصراع الذي سمي آنذاك "بالحرب الباردة"، بدأ بتحديد حدود أوروبا والعمل على حل المشكلة الألمانية والتي كانت ستحدد مدى تأثير كل القطبين على أوروبا. إلا أن الصراع سرعان ما امتد إلى دول العالم الثالث، فقد رفض الإتحاد السوفيتي الانسحاب من إيران لولا الضغوط الأمريكية. وقد أكد هذا الرفض كما يقول المحللون السياسيون لتلك الفترة وجهة نظر ترومان حول فعالية "الحديث بعنف" / "taking tough" مع السوفييت، والتي قادت إلى سياسة الاحتواء التي نالت ترحيباً كبيراً من الراي العام الأمريكي. كما افرزت الحرب الأهلية اليونانية والضغوط السوفيتية على تركيا لتقديم تنازلات في المضايق "مبدأ ترومان".
وقد كانت الشيوعية العالمية تتقدم بخطى حثيثة أنذاك نتيجة لظهور شخصيات مؤمنة بهذا الفكر مثل سوكارنو ـ هوشي منه، والتي أحدثت تغييرات كبيرة في الشرق الأقصى، عدها الغرب تحدياً كبيراً له وتطلع إلى مواجهتها.
هذه التغييرات السريعة التي كانت تحدث في الشرق وضعت الولايات المتحدة الأمريكية في مأزق، فهي من ناحية، ترفض مساعدة حكومات دول العالم الثالث الفاسدة (من وجهة نظرها) وكذلك لا ترغب في الارتباط بالأمبراطوريات الإستعمارية المتداعية، ومن ناحية أخرى لا ترى قوى الثورة أن تنتشر أكثر، لأن ذلك من شأنه أن يعزز من قوة موسكو.
ولمواجهة التقدم الشيوعي، طلب المتشددون من أمثال لويس جونسون Louis johnson ودين رزك Dean Rusk وجون فوستر دالس John Foster Dulles وغيرهم. من الرئيس الأمريكي التصرف بحزم لحماية المصالح الوطنية الأمريكية، وقد تعزز موقف المتشددين لتزامن مطلبهم مع هجوم كوريا الشمالية في يونيو 1950، الذي عدّوه جزءاً من الخطة الهجومية المعدة من قبل موسكو.
في هذا الجو الملبد بالغيوم السوداء في أجواء موسكو وواشنطن كانت دول العالم الثالث ومن بينها الدول العربية، تسير بخطى سريعة في طريق الاستقلال عن الأمبراطوريات الإستعمارية القديمة. وكانت هذه الأخيرة ترغب بكل ما امتلكت من حيلة في أن تحافظ على ما تبقى لها من نفوذ في الشرق الأوسط.
وفي سعيهم المتوصل لإيجاد ترتيبات أمنية كالدفاع عن الشرق الأوسط (منطقة نفوذهم الحيوية) في حالة حدوث أي هجوم سوفيتي عليها. قدم رؤساء الأركان البريطانيون خطة تدعو إلى:
شكل من الشراكة العسكرية الإنجليزية ـ المصرية للمعاونة في الدفاع عن الشرق الأدنى في حالة العدوان السوفيتي. وتدعو هذه الخطط إل تقوية الجيش المصري بمعدات عسكرية بريطانية، بما في ذلك المعدات الثقيلة… وإحدى نتائج هذا التطور ستتمثل في زيادة اعتماد الجيش المصري على المملكة المتحدة في الحصول على الإمدادات والمساعدات العسكرية وهي الحقيقة التي ستزيد من احتمالات استمرار الوجود البريطاني في منطقة قناة السويس… ومن خلال التحكم في قطع الغيار والتعويض.
اعتقد البريطانيون أنه سيكون بوسعهم كبح جماح المصريين بعيداً عن المغامرات العسكرية التي لا ترتبط بأغراض الدفاع الإقليمي الذي يقدمون هم الأسلحة من أجله… وهم يخططون في آخر الأمر لاجتذاب الدول العربية الأخرى وإسرائيل إلى ترتيبات الدفاع المتصورة في الشرق الأدنى.
وبمثل هذه الوسائل، سيتحسن الوضع الاستراتيجي للغرب في الشرق الأدنى. ومن الضروري بطبيعة الحال ألا تتضمن هذه العملية استئناف العمليات الحربية بين أطراف النزاع الفلسطيني(1).
وبالرغم من أن الإدارة الأمريكية آنذاك كانت تقر بمساندة استمرار إمداد مصر بالأسلحة البريطانية، إلا أنها وجدت الخطط البريطانية متحيزة ضد إسرائيل. (وكان اتشيسون) منتبهاً لذلك فاقترح طريقة لحل قضية إمداد الأسلحة للدول العربية وإسرائيل، تزيل اعتراضات الرئيس ترومان حول الخطط البريطانية، تقدم بها رسمياً في 24 أبريل 1950. وكانت فكرة اتشيسون تقوم على إعلان ثلاثي يضم (فرنسا ـ أمريكا ـ بريطانيا) بشأن شحنات الأسلحة إلى الشرق الأوسط. وقد وقع على هذا الإعلان المسمى "بالميثاق الثلاثي" في اجتماع لوزراء خارجية الدول الثلاثة عقد بلندن في 11 و 12 مايو 1950. وقد كان ينص على التالي : "عدم السماح بشحن أسلحة إلى اية دولة من دول الشرق الأدنى ما لم تقدم الدول المشترية للدولة الموردة تأكيدات رسمية بعدم القيام بأي عدوان ضد أية دولة أخرى من دول الشرق الأدنى. والاستمرار في إقناع البريطانيين والفرنسيين بأهمية تلافي خطر أي تجدد في الأعمال الحربية في فلسطين، والحصول على موافقتهم على إصدر بيانات علنية موازية بتصميم على اتخاذ تدابير قوية، داخل الأمم المتحدة وخارجها، إذ ما اتضح أن هناك محاولة لتجديد الأعمال الحربية. ولن تتضمن مثل هذا التدابير استخدام القوات المسلحة الأمريكية(2).
في هذه الفترة التي تعتبر ذروة الحرب الباردة، قام مصدق بتأميم النفط الإيراني وكذلك استلم رئاسة الوزراء في إيران في أبريل 1951. هذه الحركة أثبتت بوضوح تداعي القوة البريطانية في المنطقة، لأنها فشلت في إجهاض السياسة الوطنية لمصدق.
أما على الصعيد الدولي فقد كانت الحرب الباردة التي اشتد سعيرها هي المسيطرة على الوضع العالمي المتميز باستراتيجية الكتلتين القائمة على الاستقطاب الدولي. التي تعتبر دول العالم الثالث أدوات في صراع القوى العالمي، حيث أرادت الدول الغربية أن تبقى الدول الحديثة الاستقلال مناطق نفوذ لها سواء عن طريق تطبيق الأساليب الاستراتيجية المباشرة أي الوجود العسكري المباشر أو بواسطة الطرق غير المباشرة كالأحلاف والمواثيق العسكرية. والتي تعني حرمان الدول الحديثة الاستقلال من ممارسة استقلالها السياسي وكذلك مصادرة سيادتها الوطنية التي هي من أبرز خصائص حرية اتخاذ القرار المناسب في كل ما يتعلق بحماية المصالح القومية والأمن القومي.
ولعل في رصد الدور الكبير الذي لعبه الأمريكان في إسقاط الدكتور مصدق أثناء الأزمة الإيرانية 1953(3). ما يكشف مدى التغلغل الذي حققته أمريكا في إيران لتصبح فيما بعد المسؤولة عن استقرار واستمرار نظام الشاه محمد رضا بهلوي. وقد تزامنت هذه المسؤولية مع وصول إدارة أمريكية جديدة إلى السلطة بزعامة "ايزنهاور ـ دلاس". كان أهم أهدافها احتواء التوغل السوفيتي في الشرق الأوسط. ومن أجل الوصول إلى هذا الهدف كان لا بد من تقوية الدول التي لها حدود مشتركة مع الإتحاد السوفيتي. هذه التقوية لا تأتي إلا بربط هذه الدول ببعضها عبر أحلاف تكون تابعة للمعسكر الغربي. وهكذا تحققت الخطوة الأولى من هذا السيناريو بارتباط باكستان بتركيا (وهي عضو في حلف الشمال الأطلسي) عبر حلف عسكري في الثاني من أبريل 1954(4). وقد تبع هذا الحلف اتفاق مساعدة ودفاع مشترك بين الباكستان والولايات المتحدة الأمريكية. والأسئلة التي تطرح نفسها هنا تدور حول طبيعة ردود الفعل البريطانية تجاه السياسة الأمريكية الفعالة في المنطقة. هل تقبل أن تبعد بهذه السرعة عن مناطق نفوذها؟ أم أنها سوف تحاول أن توجد لها تجمع آخر؟.
التسميات
أمريكا